لو علم القارئ الكريم الجهد المبذول في كتابة أي مقال والمخاض الذي يجتاح الكاتب حين يريد إرسال يراعه على الورق وكذلك البحث عن الفكرة والموضوع والتوقيت المناسب وتفاصيل أخرى يعرفها كل كاتب مارس هذا المجال، لأعطى القارئ اهتمامه وعنايته عند قراءته للمقال الذي يشده).. قال لي هذه الجملة أحد الكتّاب الكبار، وأقول تأميناً لهذا الكلام: لو وقف المستهلك على إحدى السلع المصنعة كالسيارة وجهاز الحاسوب وغيرهما وكيف هي مراحل التصنيع والتركيب والفكرة ومهندسو تلك الفكرة وفريق العمل وكيف يكابدون قبل وصول تلك السلعة إلى المراحل التي تمر بها للمستهلك، لوقف المستهلك إجلالاً واحتراماً لهذا الفريق ناهيك عن انبهاره بما تحتويه تلك السلعة من كفاءة وفائدة؛ لذلك سنّ الله في منهجه القويم أن ساعة تَفَكُّر في خلقه وعظمته وملكوته تعدل عبادة سنة كما جاء في الأثر. يقول لي أحد الكُتّاب إنه قبل نصف ساعة من كتابة المقال الأسبوعي أو اليومي لا تكون الفكرة حاضرة أو تكون ضبابية، وساعة الاتكال على الله ومس اليراع للكتابة فإن الفكرة تتبلور ثم تأتي الأفكار تباعاً. قال لي أحدهم إن الأفكار تأتيه من قراءة كتاب، وقال الآخر إن الأفكار تأتيه من جلسة تضم أشخاصاً مختلفي الأطياف أو الثقافات، وقال الآخر إن الفكرة تُستوحى من معطيات السوق وما يستجد من مستجدات اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية، وقال أحدهم أحياناً تكون من ردود فعل القراء لمقال ما، والعجيب أن أحدهم صرح لي بأن الأفكار تأتيه من خلال تقلبات مزاج زوجته فإذا كانت حادة المزاج فإن مقاله الأسبوعي حينها يكون رائعاً ومتألقاً وإذا كان مزاجها رائقاً وهادئاً انعكس على سلبية مقاله وروعته ورونقه، ولله في خلقه شؤون. وللكُتّاب طقوس وعادات غريبة، أحدهم يكتب مقاله في السّحر، وأحدهم في القطار، وآخر في الحديقة، وأغرب ما قرأت في هذا الباب أن أحدهم يكتب المقال حينما يشاهد مباراة كرة قدم لفريقه، وتقول إحدى الكاتبات الأمريكيات إن كتابة المقال تحتاج إلى نوع من التوازن النفسي والشخصي؛ فيجب أن يكون الإنسان حين كتابة المقال متزناً توازناً مقبولاً لا فرحاً عارماً ولا حزناً مطبقاً؛ فالاعتدال في المزاج يؤدي إلى كتابة مقال منضبط ومتوازن ومقبول. ويرى كثير من الكُتّاب اللامعين والقامات في هذا المجال أنه يجب عليك أن تنسلخ من تبعيات مزاجك النفسي ودوائرك النفسية السلبية؛ لأنك بالضرورة سوف تكون حبيس تلك الدائرة، وهذه الحالة الضبابية سوف يتلقاها القارئ بقراءة مهزوزة ومغلوطة؛ لأنها انعكاس طبعي لتلك النفسية. ويقول أحد أساطين الكتابة إن الكاتب الجيد هو من يخط لنفسه طريقاً يعرفه الجميع به أو نَفَساً أو أسلوبا أو خطا فارقا مثله مثل العلامة التجارية على إحدى السلع؛ فعندما يقرأ مقالاً ما حتى وإن لم يشاهد من كتبه فإنه يتعرف بالضرورة على نفسية وعقلية وذهنية الكاتب؛ لأن هذا الكاتب رسم لنفسه خطاً وطريقاً عرفها من خلاله القارئ والمهتم. إن المعاناة التي يعانيها الكاتب من جراء البحث عن فكرة ما هي أحيانا تكون كمعاناة خلع الضرس وما يشوبه من الألم والأوجاع، ويقول الفرزدق في هذا وهو أحد فحول الشعراء في العصر الأموي إنه يأتي وقت يصعب عليه نظم بيت من الشعر وإن معاناته في ذلك كمعاناة شخص أوقظ مضجعه ألم الضرس والأسنان. إن المعاناة لدى الكاتب تكمن في ديمومة الأمر وارتباطه بزمن ووقت لا مجال للتأجيل والتأخير فيهما، ومعادلات التسابق مع الزمن هي معادلات تُعطي في كثير من الأحيان إما إفرازات سالبة جدا أو إيجابية. قال لي أحد الكتاب وهو مازح: كم من المعاناة التي أتكبدها عند استحضار فكرة مقال؟ وقلت له: معاناة العذراء عند الولادة دون طبيب ماهر. المصانع تخرج السلع النهائية دون اهتمام أو بذل أي جهد من قبل المستهلك عن تقنية الصنع وآليته حتى وصلت إلى مراحلها الأخيرة، وهي بذات الوقت وذات الفكرة لدى القارئ؛ فالقارئ لا يهمه سوى أن يقرأ المقال ثم يُقيّمه أهو جديد أم لا؟! وهذا حق مشروع، إلا أن القارئ لو أنه أمعن النظر بالمراحل التي يمر بها المقال لأعطى المقال وقفة احترام وتقدير للجهد المبذول ناهيك عن الفكرة والمضمون. تقول لي إحدى الكاتبات إنها عندما تريد أن تكتب مقالتها الأسبوعية فإنها تهجر البيت حتى تتم كتابة المقال، فسألتها عن السبب فقالت: حتى أخرج من دائرة الضوضاء والملاحقة. وقال لي أحدهم إنه يكتب مقاله وهو داخل صالة البيت وسط صراخ أطفاله وطلبات زوجته؟! إنها الفوارق التي أودعها الله في خلقه من طبائع وسلوكيات تختلف بين شخص وآخر. يقول أفلاطون إنه يستحضر الفكرة أحياناً من اللافكرة. مما لا شك فيه أن الكاتب يعاني أيما معاناة؛ فهو مثله مثل الشاعر والرسام والفنان؛ فقد يواجه الشاعر كثيراً من الصعوبة والمعاناة عند نظمه لبيت شعر من قصيدة، وكذا الرسام والفنان، معاناة الكاتب المتواصل مع قرائه ومحبيه معاناة يكتنفها كثير من الألم والمخاض الذي يسبق كل مقال؛ حيث إن الكاتب الذي يحترم قلمه وجمهوره يمر بعدة أوهان، أحدها فكرة المقال، ثم ترتيب الأفكار ونسج منظومة المقال والتركيز على الهدف من هذا المقال.. كل هذه الأشياء تجعل الكاتب يُمارَس عليه كثير من الضغوط عند ولادة كل مقال. الكتابة أيها السادة تُرى بعين واحدة، وهي عين الكاتب، وتُقرأ بألف ألف عين من القراء والنقاد والنخب والمفكرين وحتى رجل الشارع، وهنا تكمن صعوبة واحترام الكاتب لنفسه وقلمه وجمهوره.
(*) كاتب سعودي
Kmkfax2197005@hotmail.com