عبدالحميد العمري - عضو جمعية الاقتصاد السعودية
قد تكون سوق الأسهم المحلية الوجه الأبرز للاقتصاد الكلي في الوقت الراهن؛ غير أنه ليس الوجه الوحيد أو حتى الأهم من وجهة نظر المتخصصين، ذلك أن الاقتصاد بصورته العامّة لديه العديد من القطاعات الجزئية التي يمكن من خلال استخراج مؤشرات أدائها وتغيراتها، ومن ثم تقييمها وصولاً إلى تقييم حالة الاقتصاد الكلية في نهاية الأمر.
وترتفع درجة القدرة على مراقبة وتقييم مختلف نشاطات الاقتصاد المتعددة كلما توافرت حولها الإحصاءات، التي بدورها تكون مؤهلة لأن تصبح مدخلات لعمليات البحث والدراسة والتحليل، ومن ثم يمكن التوصل إلى نتائج محددة وواضحة تساعد أكثر من أي أمرٍ آخر في فهم وتقييم أي من تلك النشاطات الاقتصادية المختلفة. ورغم أن درجة توافر مختلف الإحصاءات حول الاقتصاد السعودي قد تقدمت كثيراً خلال العقد الأخير، إلا أنها لا تزال متأخرة إلى حدٍّ بعيد بالمقارنة مع المعايير الدولية سواءً الصادرة عن صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي أو بنك التسويات الدولية أو أي منظمة دولية معترف بها، والأمل معقود أن تستمر الجهود المبذولة محلياً نحو تحقيق المزيد من التطور على هذا الطريق. قياساً على المتوافر من تلك الإحصاءات الشحيحة نوعاً ما، التي أجاهد كغيري كثيراً في محاولة اقتناص المتاح منها، بهدف إجراء الدراسات وإعداد التقارير الاقتصادية والمالية اللازمة لعمل المرء، أو حتى لطرحها عبر وسائل الرأي العام، وصولاً إلى إثراء مجالس حواراتنا ونقاشاتنا المحلية لما فيه خير وصلاح اقتصادنا ووطننا الغالي العزيز، كان هذا التقرير المختصر حول أكثر ما يؤرقنا اقتصادياً، وأعتقد -من وجهة نظري- أن تلك المتفرقات على السطح الاقتصادي المحلي هي الأكثر إرباكاً للاقتصاد إلى درجة بلوغها مرحلة الاختناق!! بما يتطلب منّا جميعاً تحركاً جاداً ومدروساً نحو معالجته بكل الإمكانات المتاحة (وما أكثرها)، وأن التهاون بأي منها يعني بلغة الأرقام مزيداً من النزيف المالي الخطير، والإهدار الجائر لمواردنا التنافسية.
ما يجب التأكيد عليه قبل استعراضنا العاجل لتلك الاختناقات، أن حلولها تنتظر فرجها تحت رتابة أغلب السياسات الاقتصادية وإجراءاتها التنفيذية اللاحقة، التي لم تتغير أي منها منذ أكثر من ثلاثة عقود. ورغم حالات التغير الجذرية التي مرّت على الاقتصاد العالمي والمحلي (انتعاشاً وركوداً وكساداً) طوال تلك العقود؛ إلا أن رياح التغيير التي كان من المفترض أن تزيح على أقل تقدير بعضاً من الغبار المتراكم على أغلفة تلك السياسات، وجدناه توقف عند جدران أرشيفاتها الشاهقة! ولذا ستضمن كل تشخيصات أي من تلك الاختناقات ارتباطها بأي من تلك السياسات الاقتصادية. والآن، ما أهم تلك الاختناقات يا ترى التي أنشبت مخالبها في خاصرة الاقتصاد المحلي؟!
أولاً- التوظيف والبطالة:
هذا الملف الأكثر قدماً والأكثر تفاقماً منذ أكثر من عقدين من الزمن، ورغم الحزمة الآخذة في الاتساع من الجهود والقرارات والرقابة منذ عام 1995م، إلا أن النتائج جاءت مخالفة تماماً في أغلبها لما كان متوقعاً، إذ لم نشاهد طوال تلك الفترة إلا زيادةً مفرطة في معدلات البطالة بين السعوديين والسعوديات، قابلها أيضا زيادة أكثر إفراطاً في أعداد العمالة غير السعودية! الملفت في حيثيات هذا الملف مؤخراً ورغم تداعيات الأزمة المالية العالمية، أن (أسقف) رفض الباحثين عن العمل من أبناء وبنات الوطن ارتفعت كثيراً بحجة الآثار السلبية لتلك الأزمة!! إلا أن تلك (الأسقف) وجدناها تتحول إلى أرضيات منبسطة للعمالة الآتية من خارج الحدود!! يؤكد حقائق هذه الظاهرة المؤلمة حقاً زيادة إصدار تأشيرات الاستقدام من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى زيادة وتيرة التحويلات الخاصة للعمالة الوافدة إلى الخارج، التي ارتفعت من 59 مليار ريال بنهاية 2007م (9.2 في المائة من إجمالي الناتج المحلي غير النفطي) إلى أكثر من 78.5 مليار ريال بنهاية 2008م (11.5 في المائة من إجمالي الناتج المحلي غير النفطي)، أي أن تلك التحويلات (التسرب الاقتصادي) قد نمت بأكثر من 33 في المائة! ويتوقع قياساً على آخر الإحصاءات الصادرة عن مؤسسة النقد العربي السعودي أن يقفز هذا التسرب الاقتصادي الخطير إلى أكثر من 90 مليار ريال، وهو ما سيتجاوز 14.2 في المائة من إجمالي الناتج المحلي غير النفطي بنهاية عام 2009م، بما يضع الاقتصاد السعودي في سلّم الاقتصادات الأكثر تسرّباً على مستوى العالم!! وما قد يكون أكثر إفزاعاً في هذا الصدد أن نجد اقتصادنا الوطني قد فقد خلال العقد الأخير (2000- 2009) أكثر من 616 مليار ريال كنتيجة لتلك التحويلات المالية الضخمة.
من المهم في خصوص هذه القضية الشائكة أن تنفض وزارة العمل الكثير من الكسل والتباطؤ عن أكتافها، وأن تضطلع بأدوارٍ أكثر جرأة وصرامة لمواجهة هذه المعضلة المعقدة، فما أغرب أن نجد عاطلا عن العمل من أبناء وبنات الوطن خارج أسوار السوق، فيما نرى أبواب السماء والبحار وقد تفتّحت على مصارعها أمام ملايين القادمين من كل حدبٍ وصوبٍ، تراهم يقتنصون الفرص الوظيفية هنا وهناك أمام مرأى ومسمع الفريق الأول من العاطلين! والأعجب بل الأكثر عجباً - هذه أخصُّ بها معالي وزير العمل الدكتور غازي القصيبي- أن تجد نسبةً لا بأس بها من شاغلي (وظيفة مدير الموارد البشرية) في شركات القطاع الخاص هم من غير السعوديين!! هل تتخيل يا معالي الوزير الموقر أن المكلف بالسعودة في أحد كيانات القطاع الخاص شخص من خارج الحدود؟! ولماذا الخيال في هذا المقام ما دام الواقع في سوق العمل السعودية يستفزنا بوجهه البشع أينما اتجهت برأسك المكتسي بالشماغ؟!.
التساؤل هنا؛ أين سيتوقف هذا المسلسل من الإهدار لمواردنا من البشر والمال؟! ومن بيده إيقافه غير القائمين على وزارة العمل؟ أليس من الأجدر بها أن تضع أقوى خطوط الرقابة والمتابعة على ما يجري في سوق العمل؟ الواقع المؤسف في الوقت الراهن يقتضي دون جدال أن تضطلع وزارة العمل بدور (مدير الموارد البشرية) في أي جزءٍ من القطاع الخاص، بحيث لا يمكن لأي طرفٍ ذي علاقة بالأمر أن يوظّف غير سعودي أو غير سعودية وعلى أرض الوطن (قاعدة بيانات طالبي العمل) من هو أهلٌ لتلك الوظيفة ذكراً كان أم أنثى.
ثانياً- الفقر:
الفقر يأتي من الإشكالية المختنقة أعلاه المتمثلة في (البطالة)! بما يعني أن حل جزء كبير من تعقيدات البطالة، سيساهم بصورة كبيرة في إغلاق بل إحراق الملايين من صكوك الإعسار والفقر. ولكن هذا لا ينفي أن نسبة لا يستهان بها ممن تجدهم يشغلون بعضاً من الوظائف المتدنية الأجور (تتراوح بين 500 ريال و2000 ريال شهريا)، وتجد في ذممهم ممن يعيلونهم ما يفوق الستة أفراد، والكثير منهم قد يعول أيضا والديه إلى جانب زوجته وأبنائه.. في ظل الأوضاع الراهنة البالغة الصعوبة التي تفاقمت بتصاعد غلاء المعيشة وإيجارات السكن، كيف لأحدٍ منّا أن يتخيل إمكانية بقاء مثل تلك الأسر صامدةً في وجه هذه التحديات الجسيمة جداً؟! إنّه الملف الثقيل الوزن على عاتق وزارة الشؤون الاجتماعية، الذي يتطلّب منها تحركاً جاداً باتجاه القضاء على الفقر قبل أن تعد الفقراء! وأن تتعمق في معالجة أوجاع وتلبية متطلبات جزء واسع من شرائح أبناء الوطن هم أهلينا وإخواننا، متأملين أن تقوم بأعباء هذه المسؤولية العظمى قبل أن تشرح لنا الفرق بين الفقر وشديدي الفقر!!
مما يؤسف له أن رمال الفقر الزاحفة قد أثرت خلال السنوات القليلة الماضية على أطياف متعددة ومختلفة من المجتمع السعودي؛ كنتيجةٍ للانهيارات التي لحقت بسوق الأسهم المحلية، وما صاحبها من ارتفاع المديونيات على الأفراد، لحقها فيما بعد موجاتٍ مدمرة من ارتفاع الأسعار. فلم يعد الفقير من ليس لديه مصدر دخل أو أن دخله يقل كذا وكذا من الريالات، إذ وفقاً للسياق المذكور أعلاه يمكنك أن ترى ضمن دائرة المتأثرين متقاعداً لا يتجاوز دخله 2000 ريال، لا يملك منزلاً، يعول عائلة متوسطة إلى كبيرة الحجم. ويمكنك أن ترى ضمن دائرة الفقر موظفاً أو عسكرياً دخله ضمن الفئة المتوسطة، غير أن ثلاثة أرباع دخله ذهب أدراج رياح الديون البنكية، وما تبقى أكلته حيتان سوق الأسهم أمام عينيه. ويمكنك أن ترى ضمن دائرة الفقر امرأة مطلقة أو أرملة أو سُجن زوجها ومعها أطفالها.
ثالثاً- سوق الأسهم المحلية (نكث الغزل):
لا أرى سوقنا المحلية بحيرتها داخل الحلقة المفرغة التي طال أمدها بعيدةً عن روح الآية (كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً)، فسرعان ما أن تراها تستقر وتبدأ في الصعود لتجدها تنتكس على أعقابها خاسرة لأي سببٍ كان، تعددت الأسباب والموت واحدُ!! ظلموا تلك السوق بجعلها رهينةً لما جرى ويجري في أسواق ما وراء البحار بدعوى الأزمة المالية العالمية، وما صدقوا في ذلك كثيراً، ففي بداية الأزمة تفاقمت خسائرها خلال 35 يوم عمل فقط إلى نحو 43 في المائة، في مقابل نصف تلك الخسارة الموجعة شهدناها تلحق بالأسواق الموطن الفعلي للأزمة المالية! ورغم ذلك استمرّت (الأكذوبة) حتى في ظل فترة الانفصال التام، التي حدثت بين سوقنا المحلية وبقية الأسواق الرئيسة منذ نهاية الأسبوع الأول من يوليو 2009م الماضي حتى اليوم، فعلى الرغم من الصعود والانتعاش الذي أصاب تلك الأسواق منذ ذلك التاريخ تراوحت معدلاته بين 23 في المائة و15 في المائة، لم تتجاوز سوقنا في صعودها 5.3 في المائة! فالارتباط -غير المحدد- هنا وفق المنطق المقلوب لدى البعض مؤداه أننا نخسر أكثر من خسارة أسواق الأزمة ذاتها، وأننا نربح أقل من أرباح تلك الأسواق!! ذاك أحد الأسباب التي تم التطنين بها طوال الأحد عشر شهرا الماضية.
في رأيي أن علل وأمراض السوق المحلية داخلية أكثر من كونها خارجية! اجتمعت على رقبة السوق من عدّة مصادر مؤثرة جداً؛ لعل من أبرزها السياسة النقدية المتقلبة منذ مطلع نوفمبر 2007م، بدءاً من تضييق الخناق المتتابع على السيولة حتى نهاية صيف 2008م، ما أنهك معه السوق المحلية بصورةٍ كبيرة، لم تستطع على أثره حتى الصمود في وجه الضوضاء الإعلامية التي صاحبت نشوء الأزمة المالية حينها، ولتفقد نصف قيمتها الرأسمالية في ظرف خمسة أسابيع! ولم تفلح السياسة النقدية فيما بعد في إنقاذ تحطم من أركان السوق الخاسرة، إذ نتج عن تلك السياسات المتوسعة في اتجاه توفير السيولة للاقتصاد المحلي، أن خرجت السيولة للخارج العالي المخاطر، فيما توقفت وتيرة نمو التمويل من البنوك للاقتصاد والسوق منذ مطلع العام الجاري، حتى النمو في مستويات السيولة المحلية الذي ناهز 9 في المائة منذ مطلع 2009م حتى نهاية يوليو الماضي، وجدناه تأتى من نمو الودائع بالعملات الأجنبية بنسبٍ وصلت إلى 30 في المائة، وارتفع خلال نفس الفترة صافي الأصول الأجنبية بأكثر من 129 في المائة. كان من الصعوبة بمكان في ظل إحجام السيولة المحلية عن اقتناص الفرص المواتية فيها، وتحت الموجة الكبرى لخروجها خارج الاقتصاد الوطني وليست السوق المالية فحسب، أؤكد كان صعباً جداً أن تجد مجالاً للاستقرار والنمو. على أنه من غير المستبعد أن نشهد تحولاً ملفتاً للانتباه في مجريات تعاملات السوق المحلية بعد عيد الفطر المبارك، قد يدعمه عودة جزء كبير من السيولة المواطنة التي قد تجني أرباحها في بعض الأسواق الرئيسة في العالم؛ خاصةً بعد مكاسبها خلال أقل من شهرين مضيا التي تراوحت بين 20 و40 في المائة، بمعنى أن السوق المحلية مهيأة للصعود بقوة في حال استمرّت حالة التفاؤل الراهنة في الأسواق الرئيسة، ولكن لا يعني هذا تخلّص السوق من مصادر زعزعتها وعدم استقرار أدائها. كما لا يمكن نسيان عشوائية قرارات الكثير من المتعاملين، التي ساهمت هي أيضا بدورها السلبي في الكثير من الانتكاسات، والشوكة القوية للشائعات التي غذى قوتها غياب المعلومات الآنية، والإفصاح الآني عن الأخبار والتطورات الجوهرية ذات التأثير المباشر على أسعار الأصول المتداولة في السوق.
هذا بدوره يؤكد مرة أخرى على ضرورة إيجاد آلية تنسيق محددة وواضحة بين مؤسسة النقد العربي السعودي وهيئة السوق المالية، فوفقاً للتجربة السابقة ظهر بادياً للعيان حجم التأثير الكبير لقرارات الأولى على نطاق عمل ومسؤوليات الثانية، وهذا دون شك سيكون فيه مصلحة كبرى ليس فقط للسوق المالية المحلية، بل حتى للجهتين (ساما، الهيئة) لكيلا يقع أي منهما في أخطاء مكلفة وباهظة الثمن لأي سبب، وما أكثر ما وقع ما يشابهه خلال الخمس سنوات الماضية، لعل أخطر نتائجها الوخيمة الانهيار الكبير الذي ضرب مقدرات السوق المالية صباح 26 فبراير 2006م.
انتهى جزء من التقرير، ولكن لم ينته بعد من تناول كامل مناطق اختناق الاقتصاد الوطني، التي تضم في جعبتها محور التدريب والتعليم الذي لم يتجاوز بعد سرعة الصفر! إضافة إلى ملف بيئة الاستثمار المحلية، وارتباطها بالهدف الإستراتيجي لخطط التنمية ممثلاً في ضرورة التنويع الإنتاجي، وتشجيع ودعم الكيانات المتوسطة والصغيرة في القطاع الخاص. أيضا سيتم الحديث عن قضايا تتعلق بالبيئة التجارية المحلية بدءاً من حماية المنافسة والتصدّي للاحتكار، مروراً بضرورة فك الاختناق والتضاد بين بعض الأنظمة والإجراءات في قطاع الأعمال المحلي، وبعضاً من الإشكالات المتفرقة على السطح الاقتصادي ثبت تأثيراتها السلبية على قدرة الاقتصاد الكلي فيما يتعلق باستقراره وإمكانيات نموه.