لم يعد التطرف حدثاً عابراً في أجوائنا، أو جدلاً لا ينتهي في الممارسات الدينية، بل صار كائنا حيا يتغذى وينمو تحت ظهرانينا، وأصبح له أفكار وأتباع، ولديه القدرة في أن يخرج كل يوم بهوية مختلفة، وطيف جديد، ولا يبدو أن للأمر نهاية، فالمشروع السياسي المتطرف لم يعد سجيناً بين أوراق الكتب القديمة، لكنه عاد بنفس الدوافع والرغبة في تداول الأمر كما كان الحال في عصورالتاريخ الإسلامي، ولعل الاختلاف الأكبر في الاطروحات الثقافية والدينية يكمن في تبريرات التساؤل المشروع: من أين جاء التطرف؟، وما هو مصدره، وهل هو نبتة غريبة أم هو ردة فعل ضد واقع متغير؟.. أم هو كائن بركاني في تضاريس الدولة العربية الإسلامية، يخمد في عصور، ويثور في عصور أخرى..
تتفق مختلف المصادر أن تاريخنا العربي الإسلامي كان حافلاً بالانشقاق الديني، فالدول على مختلف العصور الإسلامية ومنذ زمن الفتنة في عصر الخلافة الراشدة كانت تقوم على أسس دينية، ثم تنتهي على أصول يرفعها الثوار من أجل إقامة دولة أخرى على أنقاض الدولة السابقة وهكذا..، وعادة تبدأ بمحاولات الخروج الفكري أولاً ثم المسلح، لكن أغلبها كان مصيره الفشل في بادئ الأمر، لكن الخطورة تكمن في تتابعها، وكان آجلاً ما يؤدي ذلك التتابع إلى التغيير الدموي، والذي يتم عادة إعادة صياغته وتشريعه على نصوص دينية مضمونها نفي الشرعية عن الخصوم..
القضية الأهم في جذور هذا الانشقاق أو ذلك الأصل هومنهج استدعاء النصوص الشرعية واقتطاعها من سياقها وأسباب نزولها لتبرير الواقع أو لدفع قضية سياسية سواء كانت إيجابية أو سلبية، وقد كان هذا المنهج أحد إشكاليات العصر الحديث الذي يتفجّر تباعاً منذ حرب الخليج الأولى.. وقد تعلمنا من تلك المرجعية الضخمة من النصوص الشرعية والآراء المتوارثة أنها تختلف أحياناً، وتتضاد في أحيان أخرى، وقد لا يتوقف الأمر بين العلماء والساسة عند حد الاختلاف، فقد تتقاتل الجماعات والدول بسبب نصوص متضادة أو تفسيرات مختلفة لنفس النص.. ألم يخرج القرّاء شاهرين سيوفهم حسب فهم محدد لآية كريمة، وألم يرد الإمام علي كرم الله وجهه بأن القرآن حمّال أوجه.. لقد كانت تلك الحادثة الخطوة الأولى في طريق تاريخ لا ينقطع من التأويل والتفسير لنصوص القرآن الكريم، ومن الثورات الدموية..
يقف العالم العربي والإسلامي في قلق لا يهدأ في حضور موجات غاضبة من التفجير والإرهاب وقتل الأبرياء، وتختلف دوافع هذه الموجات من محاربة الاستعمار إلى دفع الفساد الاجتماعي والمالي والسياسي، وتتصف هذه الموجات كسابقاتها في التاريخ الإسلامي، بالرغبة في الخروج الدموي المبني على مقاصد شرعية، فهي تبحث عن السلطة وعن إحكام القبضة على المجتمع، وكانت أغلب ثورات التاريخ الإسلامي تبدأ برفع راية الله عزً وجل، ثم تنفرد بالمجد وببناء امبراطوريتها السياسية والمالية، وهو ما يؤدي في نهاية الأمر إلى الاستبداد ثم الفشل في السيطرة على مفاتيح القبضة الحديدية، ثم تتفكك وتأفل تحت سيطرة ثورة دينية مسلحة أخرى وهكذا..
تنحصر العوامل المشتركة في أسباب دورات التاريخ العربي الإسلامي الدموية في غياب التحديث في النظام السياسي، وتطويره ليلائم العصور المختلفة في اعمار الأوطان، إذ لا يمكن قبول مبدأ التطوير في مختلف المعارف وفنون الإدارة، ثم تجاوزه في العمود الأهم في حياة الدولة، وتكمن أهمية هذه الخطوة الإستراتيجية في قدرتها على قطع الإمدادات المعنوية والمادية لقطاع الطرق الجدد، ويتأتى ذلك برفع مستوى الخطاب السياسي الداخلي إلى آفاق يكون فيها الجميع عضواً حيوياً في الحياة السياسية، وشريكاً فعالاً في مهمة الحفاظ على أمن الوطن ومستقبله.