ها قد أطلّ علينا بهيبته وسموقه، يسبقه عبقه الفواح الذي ملأ الكون رغم فساحته، طيباً وشذىً.. رمضان ما أطيبك من شهر، وما أطيبنا حين نحتفى بلقائك الاحتفاء الذي تستحق، فأنت شهر المولى عزَّ وجلَّ، ويكفيك قدراً وعلواً هذا التكريم الذي لا يُضارع..

أردت بهذا المدخل لمقالي الذي يصادف حلول هذا الضيف الكريم، التأمل في حال عالم الإسلام على عمومه، والعرب منه بوجه خاص، لأنهم أهل الرسالة الخاتمة، اختارهم الله أن يحملوها بلغتهم وتراثهم الحضاري ليكونوا شهداء على الناس، فتحول الناس شهداء عليهم عندما تنكبوا الطريق وفرطوا وتخلفوا وارتدوا عن الإبداع واكتفوا باجترار الماضي وتحميله ما لا يُحتمل...

أفكار قد تنتاب عقلك، خاصة إذا استفزته واقعة ما، أو موضوع ما، ولامس الشغاف من العقل والقلب، وكثيرة ما هي.

كتاب للمستشرق الشهير، برنارد لويس، دفعني لأسال نفسي، هل أصبحت أرضنا العربية رخوة تماماً، تغري كل باحث ومغامر، خاصة مراكز الدراسات الاستشراقية -كما سمت نفسها- لتضع تصوراتها لصياغة جديدة لمجمل حياتنا كبشر وثقافة وأرض؟ هل هي عودة لزمن التقسيم الغربي لعالمنا، أي (سايكس-بيكو) جديدة؟

إن الغرب كله، قديمه وجديده يوجه أصابع اتهامه للعرب ووصمهم بصناعة التعصب وإنتاج الغلاة.. إنهم يرون في حالنا اليوم وواقع تطورنا المعاصر فرصتها للقبض على أعناقنا والتحكم في مصائرنا وثرواتنا، لأننا كما ترى عاجزون عن رؤية التحولات الكبرى التي تجري حولنا. إن لكل أمة مصالحها لدى الأمم الأخرى، وهذه قاعدة شكلت التاريخ البشري وعلاقات الدول بعضها ببعض، إنه درس التاريخ الذي تعلمنا منه أن الضعيف هو الذي يترك فراغاً يملأه غيره، وهذا الغير هو القوي القادر، لذا علينا قبل مواجهة الغير، مراجعة أنفسنا ومواقفها.

إنها رايات الاستعمار القديم بألوانها الجديدة، دعماً لقيم الغرب ونفوذه، إنها فرصتهم -كما يعتقدون- فحالة الضعف تغري كل متربص وما أكثرهم. إن حادث الحادي عشر من سبتمبر في رأيهم غير قابل للتقادم، فهو أشبه بكرة الثلج يزداد حجمها كلما تدحرجت، لقد أصبحنا حقيقة من عدو محتمل إلى عدو قائم. عودة لكتاب المستشرق البريطاني مولداً والذي اتخذ من أمريكا موطناً، وكيف لا وقد كالت له المدائح وذبحت في حضرته القرابين ونعتته بما لم تُنعت به أحد. الكتاب بعنوان (تنبؤات برنارد لويس -مستقبل الشرق الأوسط)، كما جاءت ترجمته (Predictions the future of the Middle East)، الكتاب صدر عام 200م، ورغم السنوات التسع التي مرت على صدوره إلا أن الكثير من فرضياته ما زالت قائمة.

المؤلف يُعدّ من أكبر وأشهر المؤرخين المعاصرين الأجانب في تاريخ الإسلام بصورة عامة، والتركي أو العثماني على وجه الخصوص. يختلف برنارد لويس عن غيره من المستشرقين، أنه ركز على الأزقة الخلفية للتاريخ الإسلامي، وسلط الضوء على القوى الهامشية فيه، مبرزاً إياها وكأنها القوى الفاعلة المؤثرة في مسيرة تاريخ تلك الدول، فكتب عن الحشاشين، وحركات التمرد والثورات الفكرية العنيفة وعن المجموعات الأثنية والعقائدية غير الإسلامية وعن اليهود خاصة في المجتمعات الإسلامية ليبرزهم كمساهمين في الحضارة الإسلامية وذلك بحكم انتمائه للدين اليهودي، وشغفه وإعجابه بالدولة العبرية بفلسطين.

لكل ذلك، ظل برنارد لويس مؤرخاً يحسب له حساب ومرجعاً للعديد من المؤسسات السياسية والأمنية في الغرب خاصة تلك التي تتعامل مع العالم الإسلامي. ورغم كونه إنجليزي الأصل، إلا أنه هاجر إلى الولايات المتحدة مستجيباً لإغراءاتها التي تتيحها جامعاتها، وبالفعل وجد ضالته في (جامعة برينستون) وهي واحدة من أعرق الجامعات بالولايات المتحدة، حيث شغل منصب أستاذ دراسات الشرق الأدنى.

تجارب برنارد لويس في البحث عن الجذور التاريخية، ازدادت وهجاً بعد ذهابه لتركيا، الذي ذهب إليها تسبقه عقيدته اليهودية وشغفه بالبحث في الوثائق العثمانية عن ملكية اليهود لأي أرض بفلسطين، لتأكيد أحقيتها التاريخية بعد فشل الحفريات الأثرية التي أجريت وتجري حتى اليوم في إثبات هذا الحق، فنراه يهتم بتجربة (أتاتورك) في تحرير تركيا من أسر الخلافة العثمانية إلى نور العلمانية كما يدعي، واعتبرها النموذج لبلدان الشرق الأوسط.

ومن غريب ما ذكره برنارد لويس -وذلك بالطبع لحاجة في نفس يعقوب- ربطه بداية التاريخ الحديث بالحملة الفرنسية على مصر، رغم ما قررته أوربا نفسها وأجتمعت عليه كلمة المؤرخين، بأن التاريخ الحديث بدأ مع الحملات الصليبية، لكن لويس يريد أن يؤكد بأن حملة غربية صغيرة كحملة نابليون نجحت في الاستيلاء وبسهولة شديدة على بلد عربي كبير كمصر، ويضيف بأن حملة نابليون خرجت من مصر لا بسبب كفاح المصريين واستماتتهم لإخراجها، ولكن اضطرت لذلك تحت ضغط حملة غربية أخرى قادها الإنجليز. باختصار، أراد أن يقول أن قيادة هذه المنطقة ومنذ نهاية القرن الثامن عشر خضعت لقوى خارجية، ومن هذا المنطلق يرى لويس أن فشل الأنظمة العربية هو في الحقيقة راجع لغياب توجيه الغرب لها، ويضرب مثلاً لذلك بالقضية الفلسطينية وكيف أن العرب لا يريدون تحمل مسؤولياتهم ويلقونها على عاتق أمريكا، جاهلاً أو متجاهلاً بأن أمريكا والغرب عموماً هم أصل المشكلة والعقبة الكأداء لحلها.

يرى لويس في تركيا، كما ذكرنا، النموذج الناجح بعد أن ولت ظهرها للعالم العربي ولتاريخها العثماني حيث تقف اليوم على بوابة أوروبا الشرقية تنتظر الإذن بالدخول. كذلك يرى في إيران نموذجاً للأصولية الإسلامية الطاغية، فهي رغم ثورتها الإسلامية الكبيرة، إلا أنها وقعت فيما هو أسوأ، فحكم الملالي في رأي لويس هو البديل الأسوأ لحكم الشاه. كل هذا ولا يتعرض الكاتب لا تلميحاً ولا تصريحاً لإسرائيل كدولة دينية عنصرية، استخدمت الدين في تجريد أصحاب الأرض من أراضيهم، وفي قمع الفلسطينيين دون رحمة. فمن أجل إسرائيل تغيرت لهجة الكاتب ولم ير في دولتها الدينية ذلك التوحش الذي رآه في المسلمين.

يرى لويس أن الصراع العربي- الإسرائيلي ليس عامل الحرب الوحيد في المنطقة، ويرى أن النزاعات الإقليمية والحدودية في العالم العربي وبين أقطارها، أكثر حدة، ويمكن أن تدوم طويلاً، فهناك أطماع إيران في الخليج العربي، كما أنه من الممكن إحياء الخلافات بين مصر والسودان وبين مصر وليبيا، ثم يعرج على الحروب الأهلية في الوطن العربي حيث تقدم الحرب الأهلية اللبنانية المثل الأبرز لهذه الحروب التي قسمت الدولة شظايا طائفية ضعيفة. كذلك يؤكد أن ضحايا الحرب الأهلية في السودان قد بلغ خمسة أضعاف ضحايا الحروب العربية- الإسرائيلية مجتمعة. والغريب أن الحل الذي يراه لويس كمخرج من هذه المشكلات، وهو ما قادته إليه توقعاته، قد يتحقق كما يظن عبر ركيزتين أساسيتين، هما، تركيا وإسرائيل، فتركيا هي إحدى الضمانات الرافضة لتاريخها الثقافي والديني، وإسرائيل هي واحة الديمقراطية كما يراها، الديمقراطية التي قتلت الأطفال وسجنت الأمهات. نعم، لقد أدارت تركيا أتاتورك ظهرها لتراثها العظيم الذي جعل منها أول دولة في الشرق، لكنها أذلت نفسها وأذلت شعبها وقبلت بالفتات كآخر دولة في الغرب، الذي يمعن في إذلالها بعد أن أوصد البوابة الأوربية في وجهها. لقد استبدلت تركيا عظمة إمبراطوريتها الإسلامية وإرث سلاطينها الأوفياء لدينهم وعقيدتهم، استبدلت ذلك كله بالإرث الأتاتوركي الذي أذلهم وجعلهم كالأيتام على موائد اللئام.

بعيداً عن توقعات برنارد لويس، شهدت له المحافل والتلفاز الأمريكي مساجلات طويلة مع المفكر الفلسطيني المبدع إدوارد سعيد، صاحب المؤلف الشهير (الاستشراق)، حاول خلالها تقويض مفهوم الاستشراق كما يراه سعيد. ومن جانبه وصف سعيد أعمال لويس بأنها نموذج لعمل المستشرقين الذي ينزع إلى التأكيد الذاتي أكثر من كونها دراسات موضوعية، وهو- أي الاستشراق في مجمله- نوع من العنصرية وأداة للهيمنة الإمبريالية.

وفي لقاء له مع صحيفة (الأهرام) المصرية، أكد إدوارد سعيد أن معلومات برنارد لويس عن الشرق الأوسط يشوبها كثير من الانحياز، حيث لم يقم بزيارة للمنطقة خلال الأربعين عاماً الماضية، ويعتمد في كتابته عنها على بعض ما استحفظه عن تركيا. ولبرنارد لويس كما يقول سعيد، قرون استشعارية توجهها يهوديته وتعصبه غير المسبوق لإسرائيل.

لقد شهدت الأعوام التي تلت أحداث سبتمبر - صعود نجم لويس، فأصبح وجهاً مألوفاً عبر شاشات التلفزيون يرسم من خلال أحاديثه صوراً مرعبة عن الإسلام والمسلمين، لذلك لا نرى أية غرابة في ذلك العداء الموجه ضدنا وضد الإسلام بوجه عام. الطريق طويل، والمهمة شاقة، لكنها ليست مستحيلة، ليس برفضنا ما يقال ولكن بالعمل على تغييره.