في الإجازة تتساقط عن مرايانا قشور التعود، وطبقات الغبار اليومي الذي يختلس بريقها، عندها نستعيد الدرب الخلفية إلى ينابيعنا الخجلى الدامسة.
وفي الإجازة تطل برأسها مجساتنا المنكمشة خلف قوقعة المتشابه المتواتر، وتحبو لترتوي من ينابيع الدهشة في العالم حولنا.
القلوب التي تكون قد كلَّت.. تتخذ لها متكأ وتترقب شقوق المكان بتوقع الهواء المرطب بالضوء، يُوضئ غرفاتها عن عمى المكرر وبلادة المتطابق.
نخطو باتجاه بوابات مدن العالم نبحث عن مفاتيحها الحقيقية، ونفر عن ما يدفعه لنا جوقة مسوقيها وبائعي العروض السياحية والتذكارات المستهلكة، ومتعة معلَّبة بداخل عبوات التسويق للصفوف والطوابير.
نتقصى الخرائط عن البحيرات الموشاة بالبجع الذي يتحول إلى جنيات في الثلث الأول من الليل، وعن الجبال المطرزة بالغيم وصافرة القطارات، والقرى التي تؤثث شرفاتها بالزهر الليلكي، عن عالم ندي يجعلك تشعر كأنك تعيش داخل قطرة ماء عملاقة.. فيلين عطش الصحراء بأعماقنا، وتتلطف سورته.
المقاهي التي تمنحنا ترف التأمل، وممارسة فضيلة التلصص على السحنات وألوان وطراز الثياب، وعلى الخيوط الخفية التي تحرِّك الشخصيات حولنا حائك الخيال في رؤوسنا ينشغل بحياكة الأدوار لهم، وينسج لهم السير والحكايات، يستعين باللغة السرية المتوارية خلف حركة الأطراف، ونبرة المفردات الغامضة، ونجدهم فجأة يتسللون إلى المسرح القديم بأعماقنا وينخرطون في أدوار مسرحية اللا معقول لا تنتهي فصولها، إلا مع مغادرتنا المقهى.
نمر بحديقة لا تعرف ذاكرتها أشداق العطش، رائحة الزهور الفاغمة تنهدل كخيمة من قماش يحجبنا ويختطفنا في نشوة إغمائه تتصعّد الروح فيها، فنستعيد بشجن عندها لواعج وأمسيات شجيرة ملكة الليل في حديقة (بالرياض) التي تقاوم كل ليلة بلا كلل التجهم والصرامة.. بالعطور.
لا يكتشف الجالسون في غرفة مغلقة فساد هوائها سوى بعد أن يغادروها، وبعد أن تنهض الرئات بشهيق عارم نقي.
وفي الإجازة نبني لنا تلك البيوت الهشة التي يصنعها الأطفال في غرفهم.. جدرانها من شراشف، وسائد ومقاعد مصطفة، نلوذ بود الشراشف والظلال التي تجعلنا نظن بأننا في منأى عن العالم حيث لا هناك في مملكة العزلة سوى الدمى بعيونها الضاحكة الماكرة.
في الإجازة نعيد ترسيم الحدود بيننا وبين العالم الخارجي، نتفقَّد الأسوار.. نتخلى عن بعض الأثاث القديم الذي كنا نظن في يوم ما أنه مهم لغرفات الروح، والقناعات التي كنا نظن أنها مؤزَّلة، والأقنعة التي نظن أنها واجبة كبطاقة دخول للمهرجان الشعبي.
نعود بخفة وثقة صبي وحماسه يترقب انبلاجة بوابة عام ملتف على غموضه ووقاره.