لم أفاجأ وأنا أقرأ الأخبار التي تقول: إن 30 من بين الأربعة وأربعين إرهابياً ممن قُبض عليهم مؤخراً يحملون تخصصات علمية عالية، تصل إلى درجة الدكتوراه. السبب أن مرحلة (الأدلجة)، والاستحواذ على عقل ووجدان المتطرف تبدأ من الصغر، وتُكَرّس خلال التعليم الابتدائي و المتوسط والثانوي، ليصبح التعليم الجامعي مجرد (تخصص) يمر به المتطرف ليكون مؤهلاً عملياً لخدمة الأيديولوجيا المتطرفة، وليس لخدمة التخصص، والتفوق فيه . أي أن مرحلة التخصص الجامعي لا تؤثر في توجهات المتطرف في الغالب قدر تأثير مرحلة ما قبل الدراسة الجامعية.
بذرة التطرف تبدأ من وقت مبكر، قبل التعليم الجامعي المتخصص. أثناء هذه المرحلة يجري غرس قيم التشدد والكراهية منذ سنوات تعليم الطفل الأولى. فاليهود لمجرد أنهم على غير ديننا يجب أن نحاربهم. والمسيحيون هم بالضرورة صليبيون. والبقية وثنيون لا يجوز لك أن تتعامل معهم إلا في أضيق نطاق. أي أن كل من ليس على دينك فلا يستحق منك إلا الكراهية والحقد والبغضاء والجفاء، لتشكل هذه المفاهيم في نهاية المطاف بيئة خصبة لدعاة الإرهاب ليغرسوا ثقافتهم، ويجندوا الشباب المكتظ حقداً وكراهية لتنفيذ العمليات الإرهابية، أو كما يسمونها من باب ذر الرماد في العيون, وتسويغ الإرهاب دينياً: (العمليات الجهادية).
وهذا ما يتوافق مع ملاحظة عالم الكيمياء الشهير الفرنسي (لويس باستور) الذي يقول: (البذور موجودة في كل مكان، ولكن نموها يعتمد على التربة). فالبكتريا البيئية الضارة - مثلاً - من الممكن أن تدخل إلى جسم الإنسان عن طريق ما يأكله وما يشربه؛ ولذلك ابتدع باستور ? أيضاً - طريقة (البسترة) للقضاء على (البكتيريا) التي تفسد اللبن كما يقول تاريخه؛ والبيئة التربوية والتعليمية التي ينشأ فيها الطفل عندما تكون مكوناتها صالحة لنمو (بكتيريا) التطرف فإن الإرهاب سيكون في الغالب منتجاً (طبيعياً) لهذه البيئة، ولتنقيتها لا بد من (بسترة) ما يتلقاه الطفل من هذه البيئة، لكي يصبحَ غذاؤه الثقافي في سنين عمره الأولى صحياً. هذه ? في تقديري - هي الحقيقة التي لا بد من التعامل معها، وعدم التهرب من مواجهتها، لأنَّ منها نبدأ في إصلاح الواقع الثقافي الذي أنتج هؤلاء الإرهابيين. فثقافة التشدد وثقافة الإرهاب علاقتهما ببعضهما كعلاقة شرط الضرورة بالنتيجة. وهذه المقولة أصبحت من البديهيات التي لا يتجاوزها إلا المغالطون، أو المستفيدون من إبقاء ثقافة الإرهاب قائمة.
لامناص - أيها السادة - من الاعتراف أن هذه الظاهرة لم تحدث من فراغ، ولم يأت ِهؤلاء (الدكاترة الإرهابيون) إلى بلادنا من المريخ، وإنما هم نتاج من منتجات ثقافتنا، تشكلت أذهانهم في بيئتنا، وسقاهم منظرو (التشدد) سُقيا عذابهم، وعذاب أهلهم، وقضوا على مستقبلاتهم، وذهبت شهاداتهم الأكاديمية العليا أدراج الرياح.
ولا أدري إلى متى سيظل مشايخنا وفقهاؤنا يُمسكون العصا من المنتصف، يَشجبون النتائج، ويُنددون بالإرهاب، ويتهرّبون من إدانة المحاضن الثقافية التي تولت تنشئة هؤلاء الإرهابيين منذ نعومة أظفارهم ؛ فكل ظاهرة ثقافية (منحرفة) لا بد وأن يكون لها مسببات، لا يمكن أن تقضي عليها إلا إذا قضيت على أسبابها؛ وهذا ما يحاول بعضهم تجاوزه وعدم الاعتراف به. إلى اللقاء