إن إسرائيل منذ نشأتها تنظر إلى السلام في صراعها مع العرب بما يخدم مصالحها، ويتفق مع غايتها، ولم يكن ذلك بالنسبة لها هدفاً تسعى للوصول إليه، بل تمثل دعوتها إلى الصلح وجنوحها إلى السلم وسيلة لإخفاء نواياها تارة، والتضليل والخداع تارة ثانية، وكسب الوقت تارة ثالثة، وصرف الأنظار عن ممارساتها تارة .....
|
رابعة، وجعل الرأي العام العالمي يتعاطف معها تارة خامسة، وبلوغ هدف سياسي أو عسكري تارة سادسة.
|
وجهود السلام الدولية التي أظهرت إسرائيل قبولاً فاتراً نحوها، والمفاوضات المتعثرة التي شاركت فيها، لم يكن في ذلك ما يدل على تغيِّر موقفها وجنوحها إلى السلم بقدر ما تهدف من خلال هذا التحول الصوري إلى إعادة ترتيب الأولويات والتكيف مع المتغيرات العالمية، علاوة على ترجيح كفة العمل السياسي على العمل العسكري، وتبادل الأدوار بينهما من حيث التقديم والتأخير دون المساس بالثوابت الإسرائيلية أو التراجع عن تطلعاتها القومية.
|
ومن هذا المنطلق فإن إسرائيل بعد أن تمكنت من فرض كيانها وتكريس وجودها وبسط إرادتها انفسح الطريق أمامها لدراسة الخيارات وتحديد الأسبقيات، وما تعنيه هذه الحيثيات والمسلمات من إجراء الموازنة حيناً والمزاوجة أحياناً بين العمل العسكري والعمل السياسي على النحو الذي يحدد أسبقية كل منهم بالنسبة للآخر، ويرفع مستوى التكامل بينهما والمردود المادي والمعنوي لذلك، خصوصاً في ظل وجود الرادع النووي وامتلاك ناصية معادلة أمن التهديد وتهديد الأمن.
|
ولم تتجه إسرائيل إلى إعطاء الأولوية للعمل السياسي حتى توفر لها الرادع العسكري والمعنوي والسياسي، فقوتها المتفوقة كماً وكيفاً، وسلاحها النووي أكسبتها رادعاً عسكرياً ومعنوياً عن طريق ممارسة العنف والتطرف في عملياتها القتالية وممارساتها الاستيطانية وتصوير قوتها التقليدية والنووية بأن لها اليد العليا والذراع الطويلة في المنطقة، كما أن نجاح سياستها الخارجية وارتباطها بالولايات المتحدة الأمريكية أوجد لها رادعاً سياسياً، ومكنها من ترسيخ كيانها السياسي في المعترك الدولي، وبوأها موقعاً سياسياً استطاعت من خلاله محاولة التنصل من اقترافاتها وعدم شرعيتها وإلصاق ذلك بالنشاطات العربية المضادة، معتبرة أنها تخل بالسلام في المنطقة ومقياس القوة في الفكر الإسرائيلي هو مقدار ما تزرعه هذه القوة في نفوس العرب من الخوف وما تشيعه في صفوفهم من فرقة واختلاف.
|
ومن دواعي تحوّل إسرائيل إلى العمل السياسي وقبولها الاشتراك في مفاوضات السلام، أنها باتت قوة لها وزنها في المنطقة من الناحية العسكرية والسياسية والاقتصادية، وتوازن القوى أصبح لصالحها في حين بلغ الضعف بالعرب كل مبلغ، حتى ان القيادات الفلسطينية تكاد تفقد قدرتها على الاحتفاظ بخيار المقاومة والكفاح التحرري، ودور الدول العربية في عملية السلام اقتصر على مبادرة السلام المطروحة التي لا تزال حبيسة الأضابير والأدراج، والآن وقد انتهى الرفض العربي لإسرائيل ولم يعد له وجود، والمقاومة الفلسطينية أصابها ما أصابها من الضعف والاستكانة أمام بطش وعنف الحركة الاستعمارية العنصرية، فما الحجج والمبررات المقنعة لدى الكيان الإسرائيلي التي تمنعه من الاستجابة لمبادرة السلام العربية وإبداء المرونة في المفاوضات المتعثرة مع الفلسطينيين؟ لا جرم أن الجواب على هذا التساؤل هو أن إسرائيل تريد إملاء السلام وليس إحلاله، وأنها لا تؤمن إلا بالقوة، وضعف العرب يزيدها عناداً وتصلباً، ويجعلها أكثر تصميماً على توفير أفضل ضمانات النجاح للمخطط الإسرائيلي التوسعي المرسوم وبلوغ الأهداف القومية النهائية المزعومة.
|
والواقع أن الكيان الإسرائيلي لم يتغير، ولكن العالم تغير من حوله، ووجد نفسه يدور في فلك المتغيرات الإقليمية والدولية، وهذا الدوران دفعه إلى التكيف مع الضغوط الأمريكية والدولية التي تطالبه بإجراء مفاوضات سلام مع العرب، وتدعوه إلى احترام قرارات الشرعية الدولية بهذا الشأن والتعاطي مع المبادرات السلمية، وقد استغلت إسرائيل ذلك للاستفادة من الوقت وتحقيق مكاسب سياسية وأهداف لا تمت للسلام بصلة بقدر ما التفت على هذا السلام وأفرغته من مضمونه عن طريق تعويم المفاوضات وعدم الجدية فيها وإطالة برنامجها الزمني وبالتالي اختلاق المواقف لتعثرها وجمودها.
|
وحتى المفاوضات التي أجرتها إسرائيل مع الفلسطينيين لم تهدف من ورائها إلى سلام حقيقي يقبل به الخصم، بل اتخذت منها وسيلة تحصل من خلالها على مكاسب وخصمها تنعكس عليه المتاعب، فالدعوة إلى التطبيع قبل التوصل إلى سلام عادل وشامل، يعتبر التفافاً على مبادرة السلام العربية التي لم تقبل بها بعد، وتسمية الدولة اليهودية وطلب الاعتراف المسبق بها يعني إلغاء حق اللاجئين في العودة وصرف النظر تلقائياً عن حق التعويض المنصوص عليه دولياً، والاعتراض على الالتزام بجدول زمني لإنهاء المفاوضات وتطبيق نتائجها فسح المجال أمام إسرائيل للمماطلة والتسويف، وما نجم عن ذلك من كسب الوقت ووضع الخصم في حيرة من أمره، وتحول بعض الشروط مع الزمن إلى واقع مفروض، علاوة على ما أثاره هذا التوجه من شكوك في مدى مصداقيتها وما تنطوي عليه نيتها وقد قال الشاعر:
|
من استنام إلى الأشرار نام وفي |
قميصه منهمُ صلٌ وثعبان |
وبالنسبة للمتاعب التي عانها الفلسطينيون فحدث ولا حرج، حيث إن كل مغنم تحصل عليه إسرائيل يقابله مغرم ينعكس عليهم بما في ذلك مطالبتهم بتصفية المقاومة تحت مسمى محاربة الإرهاب طبقاً للبند الأول من خريطة الطريق، الأمر الذي ألحق ضرراً بالغاً بالفلسطينيين نتيجة لتكليفهم بتنفيذ ما عجزت عنه الآلة العسكرية الإسرائيلية والانقلاب على ما لا ينبغي الانقلاب عليه، وبالتالي تعميق الخلافات بينهم وتقسيمهم وكما قال الشاعر:
|
ولا ترى الدهر إلا حرب مضطهد |
وجالبين على المخذول خذلانا |
ومعظم الشروط التي وضعتها إسرائيل قبل المفاوضات بدءاً من مؤتمر مدريد ومروراً باتفاق أوسلو وتعريجاً على خريطة الطريق ووصولاً إلى مؤتمر أنا بوليس، كلها شروط يغلب عليها الطابع الإملائي وليس التوافقي، فضلاً عن إهدار الوقت وتطبيق قاعدة الخلي والشجي وتفاوض الأول من برد العافية والثاني من حر المصيبة، أما فيما يتعلق بشروطها في مؤتمر أنا بوليس فإنها تشكل التفافاً على مبادرة السلام العربية بالأسلوب الذي يؤدي إلى تفريغها من محتواها وإبطال مفعولها، وينتزع اعترافات عربية مسبقة.
|
ولا نجافي الحقيقة والواقع إذا ما قلنا إن إسرائيل حققت من النجاحات في عقدين من الزمن بفضل مفاوضاتها العلنية والسرية، وحيلها السياسية وأساليبها الملتوية، ما تعذر عليها تحقيقه باستخدام آلتها العسكرية في نصف قرن، ومن ينظر إلى الحالة الفلسطينية في الداخل والوضع السائد في دول الجوار وبالتحديد العراق، تتجلى أمامه الصورة بشكل يرى فيه الدولة العبرية تقترب من غايتها والشعب الفلسطيني مشتت حتى في أرضه ومغلوب على أمره، ولسان حال بعضهم يقول إذا كان البلاء موكلاً بالمنطق فهذا منطق شاعرنا إبراهيم طوقان في قوله.
|
في يدينا بقية من بلاد |
فاستريحوا كي لا تطير البقية |
وإذا كان خيار السلام المتاح هو حل الدولتين الوارد في خريطة الطريق والمؤيد بمبادرة السلام العربية فإن القيادة الإسرائيلية الجديدة لم تكتفِ بتفريغ الحل من مضمونه والتحايل عليه بتقديم العربة على الحصان، بل نسفته نسفاً كاملاً من خلال رفض أجندته واستبدالها بأجندة معاكسة لها، كالتطبيع والنمو الطبيعي والسلام الإقليمي والاقتصادي والحق التاريخي مع تجاهل وإنكار حق اللاجئين وقدسية القدس وحقوق الفلسطينيين المادية والمعنوية، وهذا الموقف يعكس ذهاب إسرائيل بعيداً في إملاء السلام بدلاً من إحلاله واعتيادها على الأخذ دون العطاء إلى الحد الذي تحول معه الأخذ إلى إملاء عن طريق فرض معطيات السلام الذي تريده وتجريد الدولة المقترحة من سيادتها ومقومات وجودها، وتحت وطأة انقسام الشعب الفلسطيني ومعاناته المؤلمة وتعنت الكيان الإسرائيلي وممارساته الظالمة، فهل بقي هناك أرض داخل فلسطين تُقام عليه الدولة الفلسطينية؟ ناهيك عن الحيثيات المتقادمة والمتناقضات المتراكمة التي واكبت مسيرة الصراع العربي الإسرائيلي، ولا تزال تكتنف مفاوضاته وتعيق مساراته.
|
|