الصوم كعبادة امتناع طوعي ثمة من يتعاطى معه بوصفه لونا من الامتناع الإجرائي المجرد عن مواقعة الأطعمة والأشربة على مدى أُمة زمنية محددة يصاحبها تغير في إيقاع الحياة اليومية!.المتلبس بهذا الفهم يُفقد الصوم روحانيته.
فهو غالبا يمضي سحابة نهاره في مزاولة فوضوية للكسل فهو منصرف نحو مخدعه مترقبا للحظة الانفراج التي تأخذ نذرها بالتجلي عندما تلملم الشمس أشعتها الذهبية باتجاه التواري خلف جدار الأفق وحينها يبدأ مسلسل طويل من التفنن الاستهلاكي على تلك الموائد الزاخرة والغنية بضروب البعد المتعي والتي سينتهي المآل بِجُلّ عناصرها إلى سلة النفايات التي يُلهب مرآها قلوب الفقراء الذين اغتال العوز ما تبقى لديهم من فرحة بقدوم ذلك الشهر الروحاني.بات الصوم لدى بعضهم لا يتجاوز كونه نوعا من الطقوس التقليدية التي تمارس دون وعي لأهدافها، إنه ليس إلا نوعا من الفولكلور الدوري المختزل في طابعه المظهري على نحو يهدد بفقدان الفاعلية المتوخاة من ذلك الصوم. بات الصوم لدى كثير منا عبارة عن أداء شكلي للعبادة لا يلامس معنى الصوم الحقيقي. إن الصيام ليس محصورا بعدم تناول الطعام واحتساء الشراب فحسب، وإنما هو مؤسسة تربوية يخرج الطالب منها بفوائد تعز على الحصر، أذكر شيئا منها على سبيل الإيجاز.
أولا: يعتبر الصوم كفريضة تتميز بسريتها وخصوصيتها من الأنشطة التعبدية التي تبث في الذات روحا ثورية تتمرد على كثير من العادات التي ألفناها في الحراك اليومي المعتاد. الانعتاق من أسر عبودية العادة شأن عسير المرتقى والإنسان غالبا تستعبده عاداته فلا يتصرف إلاعلى ضوء إملاءاتها وليس بمقدوره أن يتلفظ بمفردتي:نعم،لا،من موقع الحرية وإنما انطلاقا من إكراهات العادات التي يعمل الإنسان- ولوبدون قصد- على ألهنتها- من الالوهية - ومن ثم الصدور عنها في جل سلوكياته، ومن هنا فالصوم يولّد لدى المرء شعورا بالحرية فلايرفض ولايقبل الأمن موقع إرادة فولاذية تتيح له تقزيم العادة وزحزحتها عن سبيله.إن ممارسة الامتناع عن اللذات يمثل ذروة ممارسة الحرية الإنسانية؛ لأن كل امتناع يأتي بطواعية واصطفاء اختياري وتلبية لقناعة غير محكومة بقسرهو صورة من صور الحرية الأرقى.
ثانيا:يمدنا الصوم بجرعات مكثفة من الصبر فالنظام الغذائي الذي اعتدناه طيلة أيام العام تلح علينا ذواتنا بعدم التنازل عنه لكن الصبرالذي استقيناه من صيامنا يجعلنا أكثر قدرة على التمنع فنقسر أنفسنا على التأبي وتحمل كل المشاعر المضادة لما نتغياه فالصائم تقع عينه على مايرغب في ازدراده أو احتسائه مما ألف حشو معدته به من الوان الأطعمة ولكن لا سبيل له إلى شيء من ذلك ويستمد مما لديه من طاقات صبر عالية قدرة على ترويض ذاته على عدم التعلق بما لذ وطاب. الصوم مدرسة تدريبية تربي الصائم على الضغط على النوازع الذاتية والوقوف في وجه الأطماع الشهوية.
ثالثا: تنمية الوازع الديني، فهذا الأثرالايجابي الذي نستمده من حالة الصوم يتمثل في إضفاء المزيد من المدد الروحي الذي يجعل الضمير الذاتي يتحسس من السير بعيدا عن الخطوط الموضوعية فعندما تدب الحيوية في أوصال ذلك الضمير فإنه لايكف عن الهتاف الحادي إلى أن يتحسس المرء مواضع أقدامه في كل موقع من مواقع حياته وتكون لديه الرقابة الذاتية في أعلى مستويات حضورها على نحو تهمس فيه إلى المتلبس بها في كل مشاعره ألا يحيد قيد أنملة عن الجادة، وإذا حاد ذات بُلهنية مّا سلطت عليه أسواط التأنيب وأكرهته على استعادة سابق عهده السلوكي.
رابعا- مضاعفة مساحة الوعي وزيادة مستوى شعورنا بالحس الإنساني فعندما تعتريك لسعات الجوع يتبادر إلى ذهنك مباشرة تلك الشرائح الواسعة التي طالما اكتوت بلظاه وبذلك فأنت تنفتح على مشاكل الجوعى وذوي المسغبة من موقع الحس لامن موقع الرأي النائي عن الحس.إن معايشتك لومضات الظمأ تلفت انتباهك إلى أن ثمة حالات أسرية قد أوهنها العوز وألهبت ظهورها سياط الحاجة فإذا كنت منغمسا في ألوان المتعة المادية فالتفت إلى من بجوارك ذات اليمين وذات الشمال وحينئذ سيقع بصرك على أصناف من البشر يعيشون وضعية من الفقر الرهيب في أحلك صوره. وصفوة القول: إنه لايسوغ لنا بحال من الأحوال أن نختزل الصيام في تكوينه المادي المتمثل في حبس النفس عن الطعام والشراب بينما نُغفل أفقه الروحي الحادي للتحليق في فضاء الملكوت والتحرك في خط الازدهار السلوكي.
Abdalla_2015@hotmail.com