يعرف المتابعون لما يكتب عن قضايا أمتنا العربية الكاتب البريطاني باتريك سيل، حق المعرفة. فهو من الكتاب المجيدين، الذين تمتاز كتاباتهم بالصراحة والموضوعية. ومقالته، التي نشرها قبل الأمس في صحيفة الحياة بعنوان: (حر الصيف يقوِّض التفكير السليم).
أتت منسجمة مع ما اعتاد على كتابته من مقالات. وقد تناول فيها مواقف حول قضيتي أفغانستان وفلسطين وما يتصل بهاتين القضيتين، مبتدئاً حديثه بما بدا له أن حر الصيف في المنطقة قد أفقد بعض المسؤولين الصواب في تصريحاتهم ومواقفهم، فراحوا يرتكبون أخطاء فادحة في إطلاق تلك التصريحات وإعلان تلك المواقف ومن ذلك ما نقله عن الجنرال ديفيد ريتشارد، الذي كان قائد القوات البريطانية في أفغانستان، والذي أعلن عن تكهنه بأن بناء دولة في تلك البلاد قد يستغرق مدة تتراوح بين ثلاثين وأربعين سنة. وهذا يعني عدم إمكانية سحب قوات حلف الأطلسي من هناك ما لم تمض المدة التي اشار إليها.
وذكَّر الكاتب، باتريك سيل، ذلك المسؤول البريطاني بما حلَّ بالجيش البريطاني في أفغانستان عام 1842م عندما لم يتمكَّن من النجاة إلا واحد من أصل خمسة عشر ألفا، كما ذكَّر بما حلَّ بالجيش السوفيتي في تلك البلاد في الثمانينيات من القرن الماضي، وقال: إن الحرب في أفغانستان خطأ فادح من شبه المؤكد أن نهايتها مأساوية، وأعطى مبررات لما قال مؤكداً على وجوب أن يكون بناء الدولة متروكا للأفغان أنفسهم، ولائماً رئيس وزراء بريطانيا الحالي على جرِّه بلاده إلى المستنقع الأفغاني كما جرَّها سلفه، بلير، إلى الانسياق مع إدارة بوش المؤيدة لإسرائيل لشن حرب على العراق.
وفي كلام باتريك سيل السابق الكثير من الصواب. لكن يمكن أن يضاف إليه ما يأتي: كل من تدبَّر تاريخ الدولة البريطانية يدرك أن موقفها من الإسلام والمسلمين موقف عدائي على العموم. وليس تاريخ علاقتها بأفغانستان إلا مثل من الأمثلة التي توضح ذلك الموقف العدائي. وموقفها الحالي تجاه هذا البلد الإسلامي غير مستغرب لأسباب ربما كان منها ما تضمره من حقد دفين من دوافعه ما نتج عما ذكره الكاتب باتريك سيل نفسه عما حلَّ بجيشها على أيدي الأفغان قبل ما يزيد على القرن ونصف القرن من خسارة فادحة، لاسيما أنها كانت حينذاك الجبارة في الأرض. ولعلَّها رأت وهي تحارب تحت مظلة الدولة المتفرعنة على العالم الآن، أنها تطفئ شيئاً من لهيب ذلك الحقد الدفين. وإذا حلَّ الحقد في النفوس عميت البصائر عن رؤية الحقائق.
وربما كان من تلك الأسباب ما هو معروف من أن بريطانيا قد أصبحت منذ زمن تابعة للدولة التي أرسى قواعدها من كانوا منها، ثم تمرَّدوا عليها، بعد أن قضوا إرهاباً وعدواناً على شعب كان يعيش في شمالي أمريكا له حضارته وثقافته. وكان الجنرال ديجول قد أدرك تبعية بريطانيا لأمريكا في عهده، فعارض بشدة دخولها إلى السوق الأوروبية المشتركة، ولم تصبح عضواً في المجموعة الأوربية إلا بعد نهاية عهده. وإذا كان الأمر كذلك فما دامت أمريكا محاربة في أفغانستان فإن بريطانيا لابد أن تكون إلى جانبها.
أما بقية الدول المحاربة مع أمريكا وبريطانيا في تلك البلاد - وهي تزيد على الأربعين- فمنها ما دافعها كهاتين الدولتين، وهو الحقد على الإسلام والمسلمين، ومنها ما هو أشبه بالمرتزقة تحارب إلى جانب أمريكا طمعاً في معونتها المالية، أو اتقاء لغضبها إن هي امتنعت عن تلبية املاءاتها.
وضرب باتريك سيل مثلي ما حدث لبريطانيا في أفغانستان عام 1842م، وما حدث للسوفيت في الثمانينيات من القرن الماضي هناك يحتاج إلى التأمل. صحيح أن بريطانيا كانت، في العام المشار إليه، قوة جبارة، وأن ما حلَّ بجيشها على أيدي الأفغان كان كارثة. لكن بريطانيا - رغم قوتها- كانت وحدها. والأهم من هذا أنها كانت تجابه الأفغان، وأن الأفغان الآن منقسمون على أنفسهم، بعضهم يحارب بعضاً مع قوات الاحتلال. يضاف إلى ذلك أسلحة قوات الاحتلال أسلحة رهيبة غاية في التطور.
ولولا قوة الإيمان لدى من تحاربهم تلك القوات المحتلة لما صمدوا أمامها إلا أياماً معدودات، أما ما حدث للسوفيت في أفغانستان في الثمانينيات من القرن الماضي فأسبابه واضحة. كان الأفغان - في أكثريتهم- يحاربون القوات السوفيتية التي دخلت إلى بلادهم نجدة لنظام أفغاني اختار أن يتبنى الشيوعية منهجاً له. وكان إلى جانب أكثرية الشعب الأفغاني المقاوم للقوات السوفيتية أمريكا بكل ما تملكه من إمكانات مادية وسياسية، وبكل من أغرتهم من الزعماء المسلمين في باكستان وغيرها. ومن المعلوم كل العلم أن وقوف أمريكا إلى جانب المحاربين الأفغان ضد القوات السوفيتية كان في جانب منه جزءاً من الحرب الباردة بين الشرق والغرب.
وفي جانب آخر ثأراً من الدولة السوفيتية التي وقفت إلى جانب مقاومة فيتنام ضد العدوان الأمريكي على تلك البلاد حتى نزل بالمعتدين الأمريكيين ما نزل من هزيمة وعار.
أوضاع العالم الآن تغيِّرت. الحرب الباردة لم تعد قائمة كما كانت. ولو كان قد بقي منها شيء مؤثر لما شاهد العالم كله إطلاق العنان لروسيا الاتحادية تعمل ما تشاء في الشيشان، ولما شاهد العالم كله روسيا تسمح لأمريكا بأن تمر أسلحتها عبر أراضيها وعبر أجوائها إلى أفغانستان.
ولو لم تتغير الأوضاع لما شاهد العالم كيف أن حكومة باكستان، التي كانت عوناً للأفغان المحاربين للقوات السوفيتية الأجنبية في بلادهم، وركناً قوياً لمجاهديهم، قد أصبحت إلى جانب القوة الأمريكية المحتلة لأفغانستان. عندما كانت القوات السوفيتية تقاتل المقاومين لوجودها من الأفغان كانت حكومة باكستان تنادي بتطبيق الشريعة الإسلامية، كما تنادي بدعم المجاهدين.
أما الآن فالحكومة الباكستانية لم تعد تنادي بتطبيق الشريعة بل إنها لم تعد قادرة على تنفيذ ما كادت تصل إليه من حل سلمي مع فئة من شعبها لها موقفها الذي يتفق معها فيه من يتفق ويعارضه من يعارض ذلك أن من بنود الحل السماح لتلك الفئة أن تطبق الشريعة الإسلامية في مناطقها، فسارع من في أيديهم الأمر فعلاً في المنطقة إلى إيقاف المسألة عند حدها.
وعلى أي حال فإن مقالة الكاتب المتمكن، باتريك سيل، فيها الكثير من الصواب وإن كان يحتاج إلى مزيد من التأمل. وإذا كان موقف الحكومة البريطانية الحالية، التي انتقد ذلك الكاتب موقفها في قضية أفغانستان، قد اتضح في تلك المقالة فإن كاتب هذه السطور يمكن أن يضيف إلى ذلك أن لهذا الموقف جذوره التاريخية الراسخة حقداً، ولتلك الحكومة، كما لكثير من الدول التي تكالبت على الحرب في ذلك البلد المسلم مع أمريكا اسبابها التي من أبرزها لدى أكثرها عدم إضمار أي مودة للإسلام والمسلمين، بل لديها عداوة لهما. وفي الحلقة القادمة -إن شاء الله- سيكون الحديث عما ذكره الكاتب باتريك سيل في مقالته عن الموقف تجاه القضية الفلسطينية التي هي أكثر خطراً.