Al Jazirah NewsPaper Monday  17/08/2009 G Issue 13472
الأثنين 26 شعبان 1430   العدد  13472
القمع بحجة الأمن!
د. عبدالرحمن الحبيب

 

في بعض الدول العربية يدخل الشخص العادي مركز الشرطة متوجساً خيفة، لأنه يعلم أنه قد يساق مخفوراً لمجرد أدنى اشتباه بارتكابه جرماً ما، أو تسببه في توتير الجو العام. ويخاطر أصحاب الرأي المعارض بإمكان وضعهم وراء القضبان إذا مارسوا واجبهم المدني بالتعبير عن رأيهم

ضد ممارسات الدولة غير العادلة.

هذا ما ذكره تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2009 الصادر من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وموضوعه تحديات أمن الإنسان في الدول العربية.. وهنا عرض لبعض أهم نقاط الارتكاز فيه. لماذا أمن الإنسان؟.. يذكر التقرير أن انعدام أمن الإنسان يقوض التنمية البشرية، كما يحدث في بعض البلدان العربية الفقيرة أو التي تعاني من النزاعات المسلحة. ويطل انعدام الأمن برأسه حتى في البلدان التي تنعم باستقرار نسبي، حيث تتمتع السلطات الأمنية فيها بقدراة واسعة على الانتقاص من حقوق مواطنيها أو انتهاكها.. فليس ثمة موضوع أدعى للاهتمام من أمن الإنسان لإعادة تقويم حالة التنمية البشرية في البلدان العربية.

فهل أمن الإنسان يرتكز على الدولة أم الفرد؟ لقد حلت مكان الأفكار التقليدية حول الأمن تحديات خارجية جديدة، كالتلوث البيئي، والإرهاب الدولي، والتنقلات السكانية الواسعة، ونظام مالي عالمي متداعٍ، فضلاً عن تهديدات أخرى عابرة للحدود مثل تفشي الأوبئة، وتجارة المخدرات، والاتجار بالبشر. أما داخلياً فتتمثل التحديات في ضعف العديد من الدول على ضمان الحقوق والحريات لمواطنيها وقمع الدولة.

فلا عجب أن يتحول الاهتمام من حماية سلامة الدولة إلى حماية أرواح المواطنين القاطنين في أراضيها. ومن هذا التحول انبثق مفهوم جديد لأمن الإنسان وظهرت تعريفات جديدة.. ورغم التنوع في هذه التعريفات، فإن نقطة الارتكاز المشتركة بينها هي الفرد، لا الدولة.

ويشتمل المفهوم الواسع لأمن الإنسان على قائمة طويلة من التهديدات الممكنة التي تتراوح بين التقليدي كالحرب، والتنموي كالفقر والصحة والبيئة. وقد اعتمد برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في عام 1994 مثالاً رائداً لهذه المقاربة باشتماله على حرية الإنسان والحياة البشرية بوصفها قيمة محورية؛ وبتحديده الأسباب والآثار المتداخلة في أبعاد أمن الإنسان، وبتركيزه على الإنسان الفرد.

ويؤكد تقرير 1994 على الالتزام بنظام عالمي متحرر من الخوف والحاجة. ذلك أدى إلى تشكيل لجنة أمن الإنسان في عام 2001؛ حيث عرَّفت اللجنة هذا الأمن بأنه: حماية الجوهر الحيوي لحياة جميع البشر بطرائق تعزز حريات الإنسان وتحقيق الإنسان لذاته. كما وضعت معايير استهلالية تؤدي مخالفتها إلى وضع أية مسألة في موضع التهديدات الموجهة ضد أمن الإنسان. ثم قامت اللجنة في وقت لاحق بتوسيع تعريفها إلى ما هو أبعد من مجرد البقاء على قيد الحياة وصمود البشر بوجه التهديدات، ليتضمن الدفاع عن حقوقهم الإنسانية الأساسية وحماية سبل العيش الكريم.

ويرى المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية محمد البرادعي أنه رغم ما تشير إليه الإحصاءات من أن العالم قد غدا أكثر سلامة، فإن الإحساس الجماعي بانعدام الأمن قد تصاعد أكثر من أي وقت مضى، نتيجة قوى تعمل على زعزعة الأمن. وتتمثل هذه القوى في أربع فئات: الفقر، غياب الحكم الرشيد، الإحساس بالغبن الناجم عن اللاتوازن بين من يملكون ومن لا يملكون، الاستقطاب المصطنع وفق أسس دينية وأثنية. وتكتمل الصورة إذا أدخلنا فيها آثار العولمة.

لذا يستنتج البرادعي أن مفاهيم الأمن التقليدية (حماية الحدود ومفاهيم السيادة القديمة) لم تعد صالحة ولا مناسبة، لأن أكثر مسببات انعدام الأمن لا تعرف الحدود. إذن، العصر الحديث يتطلب منا أن نفكر بمنطق أمن الإنسان، وهو مفهوم للأمن يتمحور حول الناس، ولا حدود له. إنه مفهوم يُقر بالروابط الأصيلة بين التنمية الاقتصادية والاجتماعية، واحترام حقوق الإنسان، والسلام.

ويحدد تقرير هذا العام أربعة عوامل تهدد أمن الإنسان. 1 شدة التهديد في تأثيرها في قدرة الناس على البقاء، وحرمانهم من الحد الأدنى من الحرية المنسجم مع الحريات الإنسانية الأساسية؛ 2 مدى تأثير التهديد في حياة الناس؛ 3 الفترة الزمنية التي يمتد بها التهديد؛ 4 درجة اتساع نطاق التهديد على النشاطات الإنسانية.

وهذا يقودنا إلى إمكانية قياس مستويات أمن الإنسان.. فهناك عدة مقاربات للقياس، أهمها المقاربة الموضوعية التي تحاول بناء مؤشرات كمية. ورغم اختلاف المقاربات، فإن محاولات القياس الدولية تبين أن مستويات أمن الإنسان في البلدان العربية قد تدهورت في السنوات الأخيرة. ويرى معدو تقرير هذا العام أن أغلب تلك القياسات تحتاج لتجديد. وبدلاً من أن يعمل التقرير على وضع مؤشر عام لأمن الإنسان العربي، فضَّل أن يتم تقدير الأبعاد المختلفة لأمن الإنسان كما هي مطبقة في كل بلد عربي على سبيل التنسيب، نتيجة الفوارق المهمة بين البلدان العربية.. وقد عمل لذلك استطلاعات للرأي.

وفي فصل آخر يقيس التقرير أداء الدول العربية وفقاً لأربعة معايير: مدى قبول المواطنين لدولتهم، التزام الدولة بالعهود الدولية الخاصة بحقوق الإنسان، كيفية إدارة الدولة لاحتكارها حق استخدام القوة، مدى قدرة الرقابة على الحؤول دون إساءة استخدام السلطة. ويظهر أداء الدول العربية فجوة واسعة بين النظرية والتطبيق، وينبه إلى مسألة الهوية والتنوع وما يصاحبها من تحديات من جانب جماعات تسعى لتعزيز استقلالها الذاتي أو الانفصال كلما زاد قمع الدولة.

وفي سياق الهوية والتنوع، يعد مفهوم المواطنة هو المفهوم المعياري الذي أسهم في إدارة التنوع الأثني والثقافي واللغوي في التاريخ الحديث للدول المتقدمة. ومن ثم يصبح ترسيخ مبدأ المواطنة من المهمات الأولية للتربية والتعليم في البلاد العربية. وينبه التقرير إلى عدم الخلط بينها (أي المواطنة) وبين تلقين الأفكار المبتذلة أو الضيقة حول حب الوطن، بل يتعين التركيز على نقل القيم المدنية حول التعاون والتعايش وحسن الجوار واشتراك المواطنين في الوعي المدني ليتم حل النزاعات بطرق سلمية محلية ودون تدخل الدولة في أغلب الحالات.. مع الإدراك بأن المواطنة لا تجسد فقط علاقة عمودية بين المواطن والدولة، بل تمثل كذلك علاقة أفقية بين المواطنين أنفسهم.

ويوضح التقرير أن العقد الأخير شهد محاولات من جانب الحكومات العربية للإصلاح، مع بروز دور الحركات السياسية والمجتمع المدني، إضافة لتعرض بعض البلدان لضغوط خارجية للقيام بالإصلاح السياسي. ورغم أهمية تلك الإصلاحات، فإنها لم تغير من الأسس البنيوية للسلطة، حيث ما زالت السلطة التنفيذية سيدة الموقف ولا تخضع لأي شكل من أشكال المساءلة. أضف إلى ذلك أن قيمة الإصلاحات تتضاءل بفعل التعديلات اللاحقة التي تنتقص من الحقوق، خاصة الحق في التنظيم والمشاركة في انتخابات حرة ونزيهة.



alhebib@yahoo.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد