أحياناً انتبذ مكاناً قصياً مع نفسي بعيداً عن أعين الفضول وآذانه في خلوة (مصارحة) دافئة يحتضنها سكون الليل، والآنام نيام، أوْ لاهُون في ركضهم الذي لا يهدأ، بهدف حيناً وبلا هدف أغلب الأحيان! غير أنني في تلك اللحظات الحميمة لستُ معنياً بشيء في الدنيا سوى ما يدور داخل أروقة نفسي من (هواجس) لا تنقصُها الصراحةُ ولا الصدقُ، مَثَلي في ذلك مَثلُ (تاجر أسهم) حين (يئُوبُ) إلى نفسه مستعرضاً أحداث يومه الحافل في (البورصة) بين ربح يُفرح وخسارة تُترح!
* *
* وكم هو جميل لو يتأسى كل منا بما يفعله ذلك التاجر، فيخلد إلى نفسه في لحظة من ليل أو نهار (ويتحاور) معها ليصل إلى نتيجة قد ترضيه فيرضى هو عن نفسه وما صنع، واعداً نفسه بالمزيد، وقد تغضبه غضباً ينتهي بالتسليم بما قسم الله له وقدّر.
* *
* وأحسب أن كلاً منا في هذه الحياة (تاجر) في (سوق القيم) ينال من فضائلها ما كُتب له، فمرة يفوز منها بالحُسنى، وأخرى يخسر، والنهاية تكمن في هامش (الربح) المعنوي، ما زاد منه مسر، وما نقص منه مضر، لكنه لا يقود إلى نفس اليأس، بل يحضُّ على تلمُّس النور في نهاية ذلك الدرب الطويل!
* *
* خصصت خلوة النفس التي أشرت إليها في فاتحة هذا الحديث لتأمل بعض نتوءات هذا الزمن وعيوبه وأنفاسه الملوثة التي تشبه أجواء الرياض هذه الأيام حين تحتقن بالحرارة والغبار، وكانت النتيجة لا تسرُّ كثيراً، هذا لا يعني والعياذ بالله قنوطاً من رحمة الله، ولا استسلاماً لنوائب هذا الزمن وآفاته وآهاته، لكنها محاولة متفائلة لتأمل النصف الملآن من (كأس الحياة) مقارنةً بنصفه الآخر، وذاك أمرٌ لا يعيبُ المتأملَ الفطِنَ ولا يضرُّه، بل يضاعف شعوره بالحذر ممّا هو أسوأ، بادئاً بنفسه ومن له ولاية عليه بحثاً عن الأفضل والأقوم سبيلاً.
* *
* وهذه شرائح مختارة من عيوب هذا الزمن ونتوءاته التي حواها (جدول أعمال) الخلوة مع النفس أسوقُها بإيجاز شديد لعل في ذكرها ما يفيد، فأقول:
* ألم تروا أن عالم اليوم يعاني من (حُمّىَ ضنك) معنوي اختلطت بسببه أوراقٌ، واهتزت قيمٌ، وبارت شِيَم، و(ثملت) من خلاله أفئدة ب(كأس النعيم) ففقدت نعيم التوازن، ونعمة البصيرة!
* *
نعم.. نحن شعوب هذه الأرض، نعيشُ في زمن صعب تسعى في دروبه أشباح.. من القُبْح المادِّي، والتردِّي المعنوي تطلُّ عبر بعض وسائل إعلامه التي طغت عليها أعاصير ملونة من لذات الحسِّ ومُتع البصر، وغزتها نماذج من (شعوذة الفكر) تمتدُّ أحياناً إلى بعض ثوابت المعتقد باسم الحرية، فيتشوه الفكر، ويسوء الظن، وتفسد بعض القلوب تأثُّراً بذلك؟!
* *
* نعم.. نحن في زمن صار فيه الفقر عاراً والعوز عيباً، والحاجة إثماً والعفة فشلاً! وبات فيه الحفاظ على الصالح من موروث القيم تخلُّفاً! والقفزُ المزيف فوق حواجز التفوق ذكاءاً، وتمرير الوسائل، وتبرير غاياتها مهارة، بل واحترافاً! وغدا الكذب والنفاق والتزلف والرياء، حكمة وحصافة وحلماً!
* *
* نعم.. نحن في زمن يُمارس في ظله الزيف باسم حرية الرأي، فيظلمُ، وتُزهقُ أنفاس الحرية حين تتعالى باسمها زخات الرفض للثابت والمتحول من القيم، وتهيمن فتنة الخُلْفِ والتطرّف على عقلانية الحوار وصوابه، فيزهق رأي الاعتدال دهساً تحت أقدام (المتنابزين) بالألفاظ والجمل المرسلة غير المسؤولة!
* *
* .. نعم وألف نعم، نحن في زمن رديء يرى أحدنا الخطأ بأم عينيه، فيُؤثر الصمت ولا ينكر الخطأ، لا بيده ولا بلسانه ولا حتى بقلبه، فإذا سئل عن صمته، أجاب بعذر (أجبن) من الفعل: (لعل لفاعل الخطأ عذراً وأنت تلوم!)
* *
* مرة أخرى.. تختلط الأوراق بين السِّتر المشروع والتستر الذي يؤوي منكراً قد يصادر حرية أو حقاً أو حياة.
* *
وبعد..،
* فإنني التمس من القارئ الكريم العذر والفهم معاً عما أسلفت في حديث اليوم، وما تضمنه من بوح صريح.. فما كانت هذه الأنفاس البريئة لتغادر محار النفس لولا سطوة الزمن.. والوجدان في آن، وأزعم أنها تصور بشيء من صدق بعض أحوال بشر هذا العصر الرديء، طرحتها لا تشاؤما منه أو زهدا فيه، رغم رماديته وماديته، ولا نفوراً من بعض أهله، أو تنكراً لهم، بل محاولة متفائلة ومخلصة.. لإيقاظ وجدان من له وجدان منهم، كي يصلح من حالة ما استطاع، مستلهماً في ذلك الحكمة الربانية الخالدة: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}وصدق الله العظيم.