يعرف العلماء الإبداع أنه النظر للمألوف بطريقة أو من زاوية غير مألوفة، وإننا حين نتحدث عن المبدعين وأولئك الذين تكون مخرجات عصفهم الذهني، أفكارا خلاقة غير مألوفة وغريبة في وقتها وزمانها، فإنه - ولاشك - تبرز شخصية صاحب الجلالة الملك عبدالعزيز رحمه الله، ذلك الرمز صاحب الجرأة والإقدام. انطلق ذلك الرجل يخوض غمار الحياة وهو يحمل إيماناً راسخاً، ويتشح بوشاح الشجاعة، وينظر للمستقبل بنظر لا يحده إلا السماء، انطلق - رحمه الله - وهو يتطلع لبناء مجد جديد على أمجاد آبائه وأجداده رحمهم الله، مجد يراه برؤية مختلفة، تتناغم وفكره الإبداعي وإن اختلفت مع واقعة ومع إمكاناته وقدراته، والحقيقة أيها الإخوة أنه لا يلام على هذا، وهو يحمل عقلاً تتزاحم فيه الأفكار الإبداعية وتتعارك على نيل شرف الأولوية في التنفيذ.
وتابع الانطلاق وشد وسطه بحزام الجدية مع الرؤية الثاقبة والتخطيط السليم، حتى أتم الله له الأمر، وأصبحت البلاد بتوفيق الله تحت نفوذه وسيطرته، وبالتالي، توافرت البيئة الخصبة لترجمة تلك الرؤى والأفكار وفرضها على الواقع، فوضع رحمه الله اللبنات الأولى في طريق التنمية والتشييد، فأشاع العلم واستقطب الخبراء واهتم بكل ما يعود على البلاد وشعبها بالخير والرخاء، وهذا ما يميز القادة العظماء والأفذاذ من الرجال، الذين يرون الأمور بزوايا مختلفة ويطرحون الحلول المتعددة في ظل دهشة المحيطين واستغراب الجلساء والمنادمين وإعجاب المتحمسين والمؤيدين.
ولعلي أسوق لكم هذا الحدث الذي يدل - كما أسلفت - على تطلعات وأفكار تركت زمانها وأتت مسرعة تسبقه حين وجدت شخصية الملك عبدالعزيز تتبناها وترعاها حتى تكون واقعا ملموساً.
ولو تركنا العنان للكتابة عن تلك الإنجازات التي ولدت قبل يومها وترعرعت في بيئة يرونها من المستحيلات لطال بنا المقام، ولامتلأت الأوراق والكتب وعجزت العيس عن التقدم خطوة بها وهي حاملة لها.
ولكننا سنقتصر في حديثنا على مجال الآثار الذي طاله جانب من اهتمام الملك عبدالعزيز، وتمثل في السماح للبعثة المعروفة باسم بعثة (ريكمان فيليبي ليبنز) سنة 1950 - 1951م بإجراء الكشوف الميدانية الجيولوجية والجغرافية والأثرية لمواضع عديدة من البلاد،، وقد بدأت البعثة أعمالها بمسح امتد من جدة في الشمال الغربي حتى نجران في الجنوب، فقد ذكر هاري سانت جون فيلبي في أوراقه الخاصة بالرحلة (أن الملك عبدالعزيز أصدر موافقته على هذه الرحلة واشترط أن يتم إعداد تقرير بنتائج الرحلة وتقديمه للحكومة السعودية مع الصور الفوتوغرافية للنقوش والقطع الأثرية التي يتم اكتشافها، وأن تكون جميع تلك القطع ملكاً للحكومة السعودية) أ ه، - كتاب رحلة استكشافية في وسط الجزيرة العربية لفيليب ليبنز - دارة الملك عبدالعزيز 1999م، تقديم صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز أمير منطقة الرياض حفظه الله - ، يقول الدكتور فهد بن عبدالله السماري معلقاً على ما ذكر فيلبي (وتعكس هذه الشروط حكمة الملك عبدالعزيز في تعامله مع مثل هذه البعثات الاستكشافية من حيث دعهما بشكل يخدم البلاد ويمنع نقل القطع الأثرية خارج المملكة)أه.
إن هذا الاهتمام من الملك الراحل - طيب الله ثراه - بنتائج أبحاث ودراسات تلك البعثة يدل على عقلية علمية متفتحة للتطور والأخذ بأسباب الرقي والتقدم، في بيئة كانت لا تراعي كثيراً مسألة تدوين التاريخ والاهتمام بالآثار والتوثيق لأحداث الماضي.
بل إن شروطه التي أملاها على أفراد البعثة كانت حرصاً منه على تاريخ المملكة العربية السعودية من التزوير والتشويه وسرقة آثاره ومقدراته، فقد سبق هذه البعثة بعثات جالت في البلاد وانتقلت من شرقه لغربه ومن جنوبه لشماله، وحملت ما حملت معها من آثار وقطع ومخطوطات ومقتنيات وذهبت بها بعيداً عن عيون الباحثين والمثقفين، وأصبح الوصول لها عزيزاً، فجاءت شروطه -رحمه الله- سداً منيعا لتهجير التاريخ ووثائقه، كما أن تلك الشروط مثلت رسالة لكل من أراد البحث والدراسة والتنقيب بأننا لا نمانع في استقبال كل من يرغب في زيارة أي منطقة من مناطقها والتعرف على تاريخها، وأننا في حرص تام ودفاع مستميت ضد من يشوه ويزور.
ولم يقف الأمر عند السماح للبعثة وإعطائها الضوء الأخضر لأعمالها بل سخر الإمكانات المتاحة لها، وأمر بتذليل الصعاب التي قد تواجهها، يقول فيلبي: (لم يقتصر دعمه على الموافقة السامية على المشروع الذي كنت قدمته له بل أكثر من ذلك فقد أمر أن تكون جميع تكاليف الرحلة على نفقته الخاصة، المأكل والتنقلات ومصاريف الرحلة وكل ما يتعلق بها ومن ضمنها إعطاء الأوامر لجميع أمراء المناطق التي ستمر منها الرحلة لمساعدتنا في حدود الممكن، ومن ذلك توظيف فريق من المرافقين (12 فرداً) في هذه الرحلة) أهـ.
إن مسيرة هذه البلاد، وبخاصة فيما يخص العلم وحرص القيادة الرشيدة على أن ينهل باغي العلم وطالبه من مختلف العلوم والمعارف تأتي امتدادا لتلك القاعدة الراسخة التي وضع أركانها وضرب أطنابها جلالة الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه-، فقد حرص على أن يرافق البعثة 12 فرداً ليستفيدوا ويطلعوا على أسس البحث التاريخي وقواعد التنقيب عن الآثار وطرق دراسة المقتنيات وسبر أغوار تاريخها، فضلاً عن إكسابهم الطرق العلمية في تكوين البعثات، وكيفية إدارة فرق العمل الميدانية.
فعلا كان رحمه الله يفكر ويخطط ويرسم طريق التطوير والتقدم برؤى وأفكار سبقت زمنها وأقبلت على عبدالعزيز طالبة التحرر والانعتاق لتنطلق في ميادين رحبة يستمتع بها كل مواطن فيفرح الشعب وينام ولي أمر المسلمين قرير العين بعد أن أرضى الله وراقبه في شعب يقدم روحه فداء له.
رحمك الله يا عبدالعزيز وجعل مثواك الجنة ومن بعدك من أبنائك البررة، ووفق الله ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين وولي عهده والنائب الثاني لكل خير، وجنبهم كل سوء ونفع بهم الإسلام والمسلمين، إنه سميع مجيب.
سعد بن دخيل بن سعد الدخيل - ثرمداء
sdokhail@gmail.com