في نهايات أغلب الكتب والمؤلفات نجد (المراجع والمصادر)، التي تشير إلى كتب أخرى تم (الرجوع) إليها في معلومة ما، وقد جاء في هوامش هذه الكتب أو آخرها (مصدر) المعلومة من كتب سابقة لها، فمثلاً نجد كتاب تاريخ صدر مؤخراً يورد معلومة أخذها من كتاب التاريخ الأوروبي (هنا المرجع)،.....
..... وهذا الكتاب يشير إلى أن هذه المعلومة قد استقاها المؤلف من كتاب قصة الحضارة (هنا المصدر)، من هنا تكمن أهمية (المرجع والمصدر) سواءً في مجال التأليف العلمي، أو في ميدان الحوار والنقاش الفكري؛ لذا لا يمكن لأي حوار بين طرفين أو أكثر أن يكون (حضارياً إيجابياً) حول مسألة فكرية أو حقيقة علمية أو قضية اجتماعية، ما لم يستند إلى مسألتين رئيستين، الأولى (تحرير المصطلحات والمفاهيم)، والأخرى (تحديد المرجعيات والمصادر)؛ لأن الحوار دون هذا أو ذاك يعني الدخول في جدل بيزنطي لا ينتهي (هل البيضة قبل الدجاجة أم الدجاجة قبل البيضة)، وفوق ذلك عدم التفريق بين الدجاجة والبيضة أصلاً، فتخيل أنك تتحاور مع أحدهم حول (الأصولية) التي غدت من أشهر المصطلحات تداولاً في حياتنا، فتكتشف خلال منعطفات الحوار الساخن أن محاورك يعتبر الأصولية (تطرفاً) أو هي صورة من صور (التشدد الديني)، فتسأله عن مرجعيته في هذا الحكم أو التقرير الفكري أو مصدره في هذه المعلومة، فيشير إلى برامج وسائل الإعلام ومقالات كتاب الرأي الذين ما انفكوا يربطون كل تطرف ديني بهذه الأصولية في امتداد واضح للطرح الغربي عن هذا المصطلح، الذي يختلف معناه الحقيقي عن تصورات أولئك الكتاب وتخرصاتهم؛ لأن (الأصولية) ببساطة مصطلح غربي النشأة والدلالة، ويعني (التفسير الحرفي للكتاب المقدس)، وهو بهذا يختلف تماماً عن مفهوم (الأصولية)، التي لم ترد في الموروث الديني والثقافة العربية بهذه الصيغة، وعليه من الخطأ أن تحاور غيرك دون أن تحدد (المرجعية) التي تحتكمان إليها؛ كونها تسهم في الوصول إلى نقطة اتفاق أو على الأقل وضوح الفكرة للطرفين.
من هنا أعتقد أن جزءاً كبيراً من حواراتنا الفكرية التي تتم عبر نوافذنا الإعلامية أو منابرنا الثقافية، وتتناول كثيراً من شؤوننا الوطنية تفتقر بالدرجة الأولى إلى (تحرير المفهوم) و(تحديد المرجعية)؛ لهذا تدب الفوضى والجدل العقيم بين المتحاورين. خذ على سبيل المثال قضية (الاختلاط) التي ما زالت تتصدر حواراتنا في المجتمع والإعلام، كان الأجدى والأجدر أن يتفق الطرفان المتحاوران على تحرير مفهوم الاختلاط أولاً، ثم تحديد (المرجعية) التي يحتكمان إليها، هل هي دينية أم اجتماعية أم عقلية صرفة.. وقس على ذلك قضايا ومسائل كثيرة؛ لأن (المرجعية) في المجمل تُسهم في منع تشتت الحوار وتشعب الفكرة، كما تكشف حقيقة الخلفية الثقافية التي ينطلق منها هذا المحاور أو ذاك، بل تكشف حقيقة الفكر الذي يحكم عقلية المحاور ومدى تطابقه مع فكر مجتمعه السائد، خاصةً أن هناك من يحاول (تزييف الوعي) من خلال إيهام الجميع بأنه يستقي أفكاره ومعلوماته ووجهات نظره من ذات المرجعية السائدة في مجتمعه، بينما هي مرجعية غربية مستوردة، وهذا يبدو موجوداً لدى بعض مثقفينا وكتاب الرأي لدينا، الذين يزيفون في المصطلحات والمفاهيم كما يتجاهلون تحديد المرجعيات في النقاشات والحوارات.
Kanaan999@hotmail.com