هرب أبو الطيب المتنبي هو وغلمانه من مصر باتجاه العراق بعد أن مكث بمصر أربع سنوات ونيفاً وكان بقاؤه بمصر عند حاكمها كافور الأخشيدي. ووصل أبو الطيب ومن معه إلى مسقط رأسه الكوفة في شهر ربيع الأول سنة 351هـ. وكان في هروبه هذا قد قطع ما قطع من أرض مصر مروراً بسيناء ثم بشمال جزيرة العرب حتى وصل إلى الكوفة.
|
وقد قال أبو الطيب قصيدة يذكر بها مسيره - هروبه - هذا من مصر ويذكر فيها ما صادفه هو وأصحابه من مخاوف ومحن وأهوال. والذي يهمنا - هنا - من هذه القصيدة بيتان اثنان، هما البيتان الثالث والرابع من القصيدة واللذان يقول فيهما:
|
تسَوّدُ الشّمسُ مِنّا بْيضَ أوْجُهنا |
ولا تُسَوّدُ بِيضَ العُذْرِ واللِّمَمِ |
وكان حالُهُما في الحُكْمِ واحِدَةً |
لو احْتَكَمْنا مِنْ الدُّنْيا إلى حَكَمِ |
لقد سوّدت الشمس وجه المتنبي ووجوه من معه، بعد أن تعرضوا لحرارة أشعتها وفوح حرها، وهم في طريقهم من مصر إلى العراق بعد أن كانت وجوههم مبيضة فاتحة اللون وهم بمصر. واستغرب وتساءل أبو الطيب كيف أن الشمس التي سوّدت وجوههم لم تسود بيض العذر - شعر العوارض - ولا شعر اللمم - شعر الرأس الذي يلم بالمنكب - حيث إنها كانت بيضاء من الشيب. وهذه الحالة التي استغرب منها أبو الطيب لو احتكم فيها إلى حكم من حكام الدنيا لحكم وأصدر حكمه القاطع بأن من يسوّد بياض الوجوه عليه أن يسوّد بياض - شيب - الشعور، ولكن الشمس ترفض مثل هذا الحكم، فهي تسوّد الوجوه ولا تسوّد الشعر الأبيض.
|
نقول: قد تمر مثل هذه الحالة على الإنسان العادي مرور الكرام ويكتفي بظاهر الأمر دون أن يتأمل أو يفكر فيه، أما الإنسان الذي يملك صحة العقل وسلامة التفكير فهو قد يضع أسئلة ويحاول إيجاد أجوبة لها عن الأشياء والأمور غير المعروفة وغير المفهومة، وقد تظل أسئلته ردحاً من الزمن دون جواب ولكن ربما أن يكون هو أو غيره من يجد الجواب. لاحظ أبو الطيب المتنبي المولود في سنة 303هـ - 916م، والمقتول في سنة 354هـ - 966م أن شمس صحاري العرب قد سوّدت وجهه من كثرة مسيره فيها، ولم تسوّد شيبه فتأمل وفكر بأن هذه الحالة وراءها ما وراءها، فالأمور لا تؤخذ بالظاهر ولا يحكم عليها بحكم واحدة ثابت لا يتغيّر. لقد حكم العلم للمتنبي بعد عدة قرون من مقتله وأفاده بأن خلايا صبغات بشرة وجهه كانت تحب النور وضوء الشمس فجذبته إليها، أما شعر رأسه وعارضه ولحيته فقد شاخت وتعبت فلا رغبة لها بشمس.
|
|