يعتدل في جلسته ليقطع حديثاً (شائكاً) كاد يقلب طاولة في زاوية بآخر المقهى، وبعد أن احتسى رشفة من القهوة سأل أصدقاءه سؤالاً: مَن منكم شاهد اليوم حلقة (طاش ما طاش)؟
لم يكن هذا الاجتماع في (رمضان) بل كان مع بداية العام الميلادي الحالي، ولكن السؤال أشعل الحديث من جديد حين ذكَّرهم صاحبنا بالحلقة التي شاهدها وسأل عنها وهي حلقة (وش هو من لحية؟).. الجميع ضحك (بأثر رجعي)، واسترجعوا معاً تفاصيل الحلقة التي شغلت الرأي العام، وانقسم حولها (الجميع).
أحمد، وهو أكبرهم سناً، يرى أن مسلسل (طاش ما طاش) أشبه ما يكون ب(الرياح) التي هبَّت على غبار الأشياء؛ فأظهرتها كما أراد البعض لها أن تكون (مغبرة). ويستحضر أحمد تفاصيل الحلقة ويحكيها لأصحابه الذين بدوا كأنهم يسمعون بها للمرة الأولى، والضحك كان هناك (سيد الموقف).
رائد، وهو أكثرهم (مقاطعةً)، ينبري لمداخلة؛ ليعلن أن المسلسل فقد بريقه منذ عدة سنوات، وأن عليهم أن يعيدوا النظر في أفكارهم والمناطق التي يجب ألا يدخلوها.
أحمد يعترض على جملة رائد الأخيرة، ويقول: الدخول في هذه المناطق (يا أخ) هي شجاعة يعتقدها (منافسوهم) بل معارضو المسلسل الذي لولا شهرته لما شاهدته البارحة على قناة (مغاربية)، ثم ينتفض مرةً أخرى؛ ليفتح حقيبة كان بجواره ويخرج جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص به، ويقول: ما زلت محتفظاً بتقرير لصحيفة (الليموند) الفرنسية التي أفردت قبل سنوات مساحة في أحد أعدادها اسمعوا:
في عام 1990 قدم النجمان (عبدالله السدحان وناصر القصبي) فكرة برنامج لوزير الإعلام السعودي آنذاك علي الشاعر، وبعد ثلاث سنوات من ذلك التاريخ ولد مسلسل (طاش ما طاش) ا ولم يترك النجمان أي شيء إلا وتعرضا إليه بالنقد بدءاً بالتمييز ضد المرأة والغلو والمبالغة في التقاليد أو الأخطاء الرياضية المشينة.
وأشارت الصحيفة إلى الانتقادات المختلفة التي عرضها المسلسل من خلال حلقاته بدءاً بمشاكل الأزواج والزوجات داخل المنزل، وانطلاقاً إلى كبار السن الذين تضاربوا على امرأة جميلة، وحتى أحداث الرياض وكيف أن الإرهابيين وظفوا صغار السن للإرهاب.. يركن (أحمد) جهازه جانباً، ويسأل سؤالاً لم يكن ينتظر إجابته:
هذا مسلسل (رمى) بحجره على المياه الراكدة وشغل الناس في كل مكان، وتجاوز مداه الحدود؛ فانتشر كما النار في الهشيم من شرقنا إلى الغرب، مَن منكم ينكر ذلك؟
أكثر الجالسين على الطاولة هدوءاً هو (نبيل) يخلع نظارته (الأنيقة) شاعراً بالملل، ويقول:
انشغلنا ب(طاش)، ذهبوا وجاؤوا وصوروا، وقرأنا عنهم معلقات وقصائد (هجاء) وفتاوى تحرمه، وتقارير ينوء بحملها أعتى الرجال.. هل من حديث آخر قد (ينفعنا)؟
يرمقه أحمد بنظرة انتقاد ويواصل حديثه وكأن مداخلة لم تحدث خافضاً صوته بعد لفت انتباه (الفضوليين):
أشعر بأن طاش هو (بصمة) سعودية يجب أن تكون وساماً على صدر الدراما، ولا أنكر أن كل واحد منكم (يفتخر) به، لكنكم تعشقون مَن يفكر (نيابةً) عنكم وتصدرون الأحكام ك(الببغاوات).. إنكم تهرفون بما لا تعرفون..
هنا.. عادت الطاولة إلى سخونة النقاش، وبدأ (يوسف) يتحرك من على كرسيه، وهو بالمناسبة (أضخمهم) جسماً، يضرب بيده على الطاولة؛ ليسود هدوء غريب لفت انتباه المجاورين لهم، وقال:
لحظة.. (طاش ما طاش) مسلسل يتكرر كل يوم في مجتمعنا، ولا أظن أحدكم قد استغنى عنه (يوماً)، مَن منكم لم يتمنَّ أن يتصل بهم في مكتبهم ليبلغهم بحادثة هنا، وقضية هناك، وأشياء تعرفونها كلكم.. لماذا تحسبونهم جاؤوا من خارج حدود (قضيتكم)، أو - كما يحسبهم البعض - معول هدم لقيمكم ومبادئكم؟..
إن (طاش ما طاش) صفحة بيضاء حاول البعض (خاسراً) إلقاء فشله عليه؛ فسعى وما زال؛ ليجعله أمامكم مولوداً مشوهاً يجب أن تدفنوه في (غيابات الجب).
إن مثل هؤلاء أعتبرهم (فاشلين) يقلقهم كيف (تنمو) الحياة بيننا، يزعجهم أن نتنفس هواءً نقياً، قد أختلف مع بعض أطروحات (طاش)، ولكنني معهم (فكرياً)، ولعلّ معي سواد أعظم من الجماهير الذين يتحرون (هلال) طاش كل عام، يرشف من قهوته متلمساً حافة الطاولة: طاش هو خطاب ثقافي سعودي ويواصل:
لماذا تلغون ثقافة وُلدت من بين (ظهرانيكم) لتنير لكم طريقاً وتكشف (عورة) المسكوت عنه وتعلو بصوتها ما كان بينكم (همساً)؟ إنكم تكذبون في قرارة أنفسكم وتخافون كلمة (الحق) وتجعلون أنفسكم رهينة لغوغائية لا تقدم ولا تؤخر.
تركي كان يلهو بجواله حين قفزت إلى ذهنه مداخلة (مؤيدة)، لكن رائد لم يطق صبراً على المقاطعة، وكعادته بدا هادئاً وموتّراً لأصدقائه:
يكفي طاش فشلهم في تكرار الشخصيات وعدم التجديد... ليأتيه الرد مشحوناً بغضب الجميع، ولكن أحمد كان أعلاهم صوتاً:
حجتك مردودة عليك؛ فالشخصيات، وإن تكررت، لا تلغي تجدُّد القضايا التي يطرحونها كل عام، وأنا أراهنك اليوم على أن مشروعهم القادم سيكون (دسماً) بما تقوله كل يوم في مجلسك والأحداث التي (تؤلمك) ولم تستطع إيضاحها للناس..
أنتم تتحدثون عن المسلسل الأشهر (عربياً) بسطحية غريبة دون التأكد من (عمق) الطرح الذي يحرك هذه الشخصيات، ثم إن هذه الشخصيات، على الرغم من تكرارها، ما زالت تدعو إلى الضحك والابتسام وتختلف (قوالبها) مع كل همّ ؟.
الساعة هنا تشير إلى الثانية عشرة وأنوار المقهى بدأت في الخفوت تدريجياً وسيارة الشرطة تدعو صاحب المقهى إلى تطبيق النظام وإغلاق المكان.. انساب الهدوء في المكان مع وصول (الفاتورة).. لملم كل منهم أغراضه وهمُّوا بالمغادرة وكل واحد منهم يحاول تحاشي النظر إلى الآخر وابتسامة تكاد تفضح (شفاههم).. كل منهم تذكر حينها (مشهداً لطاش) دون أن يخبر صاحبه به..
القضية هنا (اختلاف) في الرأي ووصوله إلى (خلاف) كاد يعصف بعلاقة امتدت عشرات السنين، وقبل أن يركب أحمد ويوسف سيارتهما (المتواضعة) ينادي الأول على البقية الذين بدوا يمضون إلى حالهم بالقول: هؤلاء مجموعة شباب أجتمعوا واختلفوا على حب (طاش ماطاش )وانتظار هديره القادم! .