Al Jazirah NewsPaper Thursday  13/08/2009 G Issue 13468
الخميس 22 شعبان 1430   العدد  13468
أولويات في صياغة العقل
عبدالله بن محمد السعوي

 

تجسيد الازدهار الذاتي الملموس يتعذر تبلوره بدرجة كافية ما لم يجر توسل منظومة من الأطر التي تؤسس لصياغة عقلية رصينة تتيح للمتخلق بمحدداتها, سلوك السبل الراشدة واعتماد المواقف الواعية التي تشي بروح يطال النضج كافة أرجائها.

الرصانة العقلية ترتكز على مقومات متنوعة ألقي الضوء على جزء منها:

أولاً: التزود بقدر واف من المعرفة التي يفضي تراكمها إلى إذكاء جذوة الشوق إلى اكتشاف الأطر المجهولة والتوغل في ساحات العلم على نحو يقي الوضع الذهني للمرء من أن يسفّ ويتقهقر. لا تسري الرصانة في مسارب العقل إلا عندما يبيت التوق إلى النهل من منابع العلم روحاً يجتاح متباين أوصال الذات على نحو يمد في أفق رؤيتها ويجلي لها وبكل شفافية المعلومات التي يفترض تقزيم شيوعها لأنها لم تعد ذات قيمة في البناء العلمي, وأيضا المعلومات المثرية التي يفترض تعزيزها وتوظيفها في بناء تقاليد ثقافية يكون لها وزنها في تطوير الوضعيات العامة. الروح الموضوعية النزيهة شرط لتكامل الرصانة المنهجية التي تفرض مقتضياتها الفصل بين العاطفة والعقل وبين المنظور الكلي الذي هو الحقيقة العلمية وبين القناعة الشخصية. البعد الموضوعي يقتضي ضرورة التحول من رؤية إلى أخرى عندما يثبت عبر البحث التمحيصي منطقية تلك الاستحالة.

ثانياً: التمتع بروح نقدية متوثبة. فالتكوين المنهجي الرصين لا يكتمل من غير امتلاك تلك الملكة المشروطة بتوفر الإحساس المرهف. من المفاهيم الشائعة والمغلوطة التعاطي مع النقد بوصفه القدرة على الوقوف على الثغرات وتحديد مكامن الخلل والحقيقة أن هذا فهم مشوه يختزل النقد كعنصر كلي في جزء منه. إن النقد في حقيقته هو إدراك الخصائص ومواطن الكمال من جهة ووعي المآخذ وأضرب القصور من جهة أخرى؛ هناك الكثيرون الذين يملكون أحيانا الوقوف على مفردات السلب لكنهم يشعرون بنوع من العجز البالغ الذي يعيقهم عن رؤية صور الايجاب. الارتقاء بالملكة النقدية وصقلها يجنب الوعي مخاطر الارتكاس في حمأة المفاهيم الفجة ويحدوه إلى تحوير مكوناتها وضخ العوامل المعلية لدرجة حيويتها.

ثالثاً: توطيد أركان الحس السببي وصياغة العقل السببي الذي يتطلع دوماً إلى تلمس العلل والوقوف على كنه العوامل الذاتية والغيرية المباشرة وغير المباشرة. كل الوقائع ومتباين المظاهر وتمظهرات المشهد المتعين خلفها ألوان مكتظة من البواعث التي آلت إليها ومهمة الوعي السببي تسليط الأضواء عليها وتشريح مفرداتها وبحث كل سبب على حدة ومعرفة مدى تأثيره إذا كان بمفرده, ودرجة تأثيره باعتباره جزءا من كل داخل منظومة متشابكة من العلل, وتحديد هل هو من قبل الأسباب الذاتية القائمة بذاتها أم هو من الأسباب الغيرية المعتمدة في وجوده على سواه, ومعرفة هل هو سبب جوهري أم ينتمي إلى الهامش, وهل هو سبب مجرد أم هو ذو ملمح ازدواجي فهو سبب من وجه ومسبّب من وجه آخر. إن الذهنية التي تتنفس السببية لا تعزو المسببّات إلى عامل واحد بل إلى عدة عوامل متظافرة تآزرت فولّدت معلوماتها. البنية العميقة لمعظم الأفراد تفتقر للحس السببي فهي مفتونة باختزال العلل وتضييق دائراتها إلى أضيق الحدود ثمة كسل جاثم على مفاصلها يحرض الوعي المؤتمر بأمرها على (الاقتصاد السببي) والشح في ذلك قدر الإمكان. ولو تأملت في تلك البنية لألفيت ثمة حقيقة سافرة تتمثل في ذلك العشق الرهيب لاختزال الأشياء وتخفيض سقف مبلوراتها وبالتالي عزوها إلى أدنى رقم سببي متاح. من الضروري إشاعة الثقافة السببية وضخ عوامل انضاج العقل القادر على رسم كنه الفضاء السببي والتحليق في مداراته.



Abdalla_2015@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد