توافدت إلى ذهني معانٍ كثيرة مشرقة لهذه العبارة الجليلة (السلام عليكم) بعد أن استمعت إلى ذلك الأديب الذي شكى إليَّ ما حدث من صديق عزيز عليه، من مخالفة لما اتفقا عليه، ومناقضة لما تعاقدا عليه، مع أنَّ ذلك الصديق المخالف هو الذي طرح فكرة المشاركة، وعرض موضوع الاتفاق، وحين سألته عن موضوع ما اتفقا عليه، أخبرني أنهما اتَّفقا على تأليف كتاب مشترك بينهما في موضوع كثر نقاشهما فيه، وحديثهما عنه، ثم تفرقت بهما مشاغل الحياة، كما هو حال كثير من الناس، ففوجئ بكتاب منشور لصاحبه يحمل ذلك الموضوع الذي اتفقا عليه وعنوانه، وما كان يظنُّ بصاحبه إلا حرصاً على مراعاة ما يجب أَنْ يُراعى، والمحافظة على ما يجب أن يحافظ عليه، ثم قال لي: هل تعلم أن ما حدث من ذلك الصديق قد أوقفني طويلاً أمام تحية الإسلام الخالدة (السلام عليكم) فأشعرني بأنها تعني الأمن والسلام والاطمئنان المتبادل بين أصحاب هذه التحية المباركة.
نعم، توافدت إلى ذهني معان كثيرة لعبارة (السلام عليكم) بعد استماعي إلى حديث ذلك الأديب، حتى شعرت بأنني أمام آفاق فسيحة من السلام المتواصل، والأمن المستمر، والاطمئنان الذي لا ينقطع.
حينما يقول أحدنا لصاحبه أو لأي مسلم يقابله: السلام عليكم، فإنه يمنحه السلام بشموله، فكأنه يقول له: هذا عقد أمان لك على عرضك، ومالك، وأهلك، وجميع حقوقك المادية والمعنوية، عقد أمان ينطق به اللسان، ويؤيِّده الجنان، فلا مكان معه لغيبة، ولا لمخالفةِ وعد، ولا لمناقضة عهد، ولا لإساءة بقول أو فعل، ثم ظلَّت المعاني تتوافد إلى ذهني حتى شعرت أن كلمة (السلام عليكم) أصبحت خيمة مترامية الأطراف، بديعة المنظر، ثابتة الأوتاد، مشدودة الأطناب، يجد كلُّ من يأوي إليه أمناً وسلاماً، وراحة واطمئناناً، وشعوراً بأنَّ عرضه موفور، وحقَّه محفوظ، وحاله مستور، وما زال إحساسي بعظمة هذه الكلمة يزداد عُمْقاً حتى رأيتها واحاتٍ وبساتين، وحدائق ذات بهجة، تجري من تحتها أنهار المحبة، والمودة، والثقة، والوضوح، والايثار، وتغرد فيها طيور التآلف والتآخي بأجمل الألحان وأصفاها وأزكاها، ويهبُّ فيها نسيم الوفاء والصدق والإخلاص وتتمايل فيها أغصان مراقبة الله، والخوف منه، حاملةً ثماراً حلوة شهية من التواضع، ودماثة الخلق، وحسن المعشر، وسلامة الصدر، وصفاء السريرة.
هكذا امتدت ظلال هذه الكلمة على كل ناحية من نواحي قلبي وعقلي حتى شعرت أنها عَقْدٌ بين طرفين لا يصح لأحدهما أن ينقضه، فإذا قلت لصاحبك: السلام عليكم، وجب عليك أن تفي بما قلت، وأنْ تجعله في سلام من ظلمك، وجورك، وغيبتك ونميمتك، واعتدائك على مالهِ، وفكره، وصغير حقوقه وكبيرها.
وفي إطار هذا المعنى الجميل الشامل، توافدت تلك المعاني الكثيرة لتحيتنا الإسلامية الخالدة، وقد نبَّهتُ إلى هذا المعنى رجلاً دخل علينا في مجلسٍ من المجالس، وألقى تحية الإسلام، وجلس، وبعد قليل خرج أحد الذين كانوا جلوساً، وما كاد ينأى عن المجلس حتى بدأ ذلك الذي دخل علينا ملقياً السلام، ينال منه ويتحدَّث عن بعض أخطائه ومواقفه، فقلت له: هل ترضى أيها الأخ الكريم أنْ تكون ناقضاً للعهد، خائناً له؟ قال مندهشاً: أعوذ بالله أن أكون كذلك. قلت له: أنت قلت لنا جميعاً حينما دخلت علينا: السلام عليكم، ورددنا عليك السلام، فأحسنت فيما بدأتنا به، وأحسنا فيما رددنا عليك به، وأراك بعد أن خرج فلان من المجلس قد نقضت عهد السلام الذي ألقيته علينا باغتيابه، فأين الوفاء له بالسلام الذي منحته إيَّاه؟
وسكت الرجل قليلاً ثم قال: استغفر الله مما قلت، وياليت كلّ مسلمٍ ومسلمةٍ يُلقون السلام، يستشعرون هذا المعنى الواسع الشامل لكلمة (السلام عليكم)، فإنها كلمة عظيمة حقَّاً.
إشارة:
{فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} (89) سورة الزخرف.