Al Jazirah NewsPaper Monday  10/08/2009 G Issue 13465
الأثنين 19 شعبان 1430   العدد  13465
طلابنا واختبار القدرات
د. عبدالمحسن بن سعد العتيبي

 

القياس مفهوم علمي، تربوي، ضروري، شائك ودقيق. وقد مر بأطوار عدة ومتباينة عبر تاريخه المديد ووصل إلى أن أضحى يدخل في جميع الأمور المتعلقة بالإنسان وغيره من الكائنات والمواد. فقد نجد على سبيل المثال مفهوماً واحداً في العلوم الاجتماعية يتم تقويمه أو تقييمه بأكثر من 14 مقياساً، كما في قياس مفهوم (الاغتراب السياسي)، حسبما يؤكد على ذلك علماء المنهجية العلمية، كالدكتور توفيق فرج وزميله في كتابهما (مقدمة في طرق البحث في العلوم الاجتماعية).

وهكذا تتعدد المقاييس بتعدد المدارس الفلسفية والتربوية وخاصة مدارس علم النفس التربوي حيث تتوفر مقاييس عدة من أهمها قياس القدرات حيث تُقرَر من خلالها اتجاهاتُ الأفراد وتحدد مساراتهم العلمية والعملية في حياتهم المستقبلية. هذا وقد تزامنت مع ظهور مقاييس القدرات انتقاداتٌ تتضمن الحديث عن مفهوم القدرة وماهية المقياس الذي يمكن أن يحدد جل أو كل القدرات عند الانسان. ومما لا يقبل الكثير من الجدل أن أياً من العلماء المختصين لم يستطع حصر كل القدرات أو قياسها بمقياس واحد نظراً لاتساع مفهوم القدرات من ناحية ولعدم وجود مقياس جامع مانع للشروط التي تحيط بأهلية الإنسان أو قدراته من ناحية اخرى.

ولذا فقد قام بعض العلماء باجتهادات ومقاربات تسعى إلى تقسيم وتصنيف القدرات إلى أبعاد معينة حاولوا من خلالها إيجاد مقاييس لأهم سمات القدرة والأهلية لدى الإنسان وذلك بعد تجارب دام البعض منها إلى عقود من الزمن من المحاولات والأخطاء المتكررة ولا زال البعض منها تصاحبه علامات استفهام خاصة عندما ينتقل تطبيقه إلى بيئات غير البيئات التي طور فيها (مثل اليابان والصين وغيرهما). ومن هذه القدرات القدرة اللغوية والقدرة الجسمانية، وكذلك الفنية والمنطقية والتحليلية والتركيبية وغيرها الكثير الكثير.

هذا وقد حاولت بعض المؤسسات التعليمية (في الغرب خاصة) أن تقتصر القدرات لديها على قدرتين فقط لفظية (لغوية) وكمية (رياضية) كما في اختبار SAT الشهير والذي تستأنس به كثير من الجامعات في الولايات المتحدة الأمريكية للقبول فيها ولكن باشتراك معايير أخرى مما يصل أحياناً لتغليب تلك المعايير على هذا الإختبار. ولقد حذت جامعات المملكة العربية السعودية حذو الجامعات الأمريكية في اعتماد اختبار القدرات إلا أنها جعلت من هذا الاختبار معياراً حاسماً يتفوق أحياناً على الثانوية في اعتماد أهلية الطالب لدخول الجامعة. ولقد قام المركز الوطني للقياس والتقويم في المملكة العربية السعودية بطرح هذا المقياس الثنائي (بشقيه اللفظي والكمي) لقياس قدرات طلاب التعليم العام أو خريجي الثانوية العامة (علمي وادبي) وكذلك خريجي الثانويات الأخرى وفي تخصصات أدبية بحتة من أجل تحديد قبولهم في الجامعات وتقييم قدراتهم بشكل عام.

وعند ظهور النتائج وجد كثير من الطلاب والطالبات أن نتائجهم مخيبة للآمال ومحبطة للتطلعات وأن هناك عدداً لايستهان به منهم قد تخرجوا من الثانوية العامة (علمي وأدبي) وبتقديرات عالية (فوق 95% أحياناً) وفي نفس الوقت حصلوا في اختبار القدرات على درجات متدنية (قد تصل إلى اقل من 55%) بينما جاءت نتائج البعض من خريجي الثانويات الاخرى عكس زملائهم في الثانوية العامة العلمية حيث يحققون درجات عالية خاصة في القسم اللفظي من اختبار القدرات. ولعل السبب في تحقيق الدرجات المتدنية لبعض طلاب وطالبات الثانوية العامة وارتفاع الدرجات لزملائهم في الثانويات الادبية او التجارية هو ان هذا المقياس لا يقيس قدرات عامة بقدر ما يقيس قدرات معينة لفظية وكمية يتم التدريب عليها في بعض الأقسام أو الفروع في الثانوية دون الأخرى.

ويصح ذلك على الشق الكمي في الإختبار بالنسبة لخريجي القسم العلمي حيث أبدوا تفوقاً على أقرانهم من غير القسم العلمي. ولهذا فقد شكلت هذه النتائج آثار سلبية على شريحة كبيرة في المجتمع السعودي إلى درجة بالغة الخطورة.

إن على المركز الوطني للقياس مسؤولية وطنية كبيرة سواء من حيث تطبيقه على البيئة السعودية او شموله لقدرات يحققها النظام التربوي بأنماطه المختلفة الرسمية وغير الرسمية. فالاختبارات بمختلف نماذجها وبالأخص اختبار القدرات تحتاج إلى دراسات متعمقة وتجارب مضنية قبل تطبيقها على طلابنا و قبل البت في مصائرهم ومستقبلهم. فلا بد على سبيل المثال من دراسات علمية محكمة تثبت ان هناك ارتباطاً وثيقاً بين هذه الاختبارات وأداء الطلاب في الجامعات السعودية، وما إذا كان طالب الجامعة ذو الدرجة العالية في اختبار القدرات يتفوق حقاً في أدائه الجامعي على زميله الذي فاقه في علامات الثانوية ونقص عنه في علامات القدرات. وانني لأدعو من هذا المنبر الإعلامي الحر مديرَ المركز صاحب السمو الأمير فيصل بن عبدالله المشاري آل سعود إلى التفضل بإعادة النظر في هذه الاختبارات وفي جعلها تحت التجربة لمدة كافية يقررها خبراء التقويم التربوي قبل أن تصبح هكذا الاختبارات عاملاً جوهرياً في تقرير مصير الطالب السعودي وأي مستقبل يصبو إليه، لذا فقد يجد المركز اهمية حقيقية للدعوة إلى مؤتمر وطني تربوي يجمع بين المختصين والمستفيدين من طلاب واولياء امور ومؤسسلت تعليمية. ان اشراك التلاميذ والآباء والأمهات في حوار كهذا يسهم في تحقيق شراكة بين الجهة المقدمة للخدمة وبين المستفيدين من هذه الخدمة ولسوف يسهم ذلك في توجيه هذه التجربة إلى اتجاه اكثر فاعلية وأكثر عدالة.

كما أتمنى في المقابل أن تقبل كل مؤسسات التعليم على هذا المركز ليكون مصدر إرشاد وتنوير للطلاب وأولياء الأمور خاصة وكافة المهتمين بالعمل التربوي بشقيه النظري والعملي في الوزارات المعنية بالتعليم وكذلك اجهزة الدولة المختلفة التي قد تستفيد من خدمات المركز في المستقبل، فهو مركز لا خلاف على أنه مهم وواعد، وأن الوطن الغالي بحاجة إليه. فهذا العصر بلغ من التعقيد درجة يمكن وصفها بأنه عصر المعايير والقياسات التي على ضوئها يقاس الأداء للفرد وللمؤسسة، وباستئناس البشر بها يستطيعون تقويم أهدافهم وتطلعاتهم الحالية والمستقبلية. لكن المعيار أو القياس يظل على كل حال اجتهاداً بشرياً محدوداً لا يسمح بالجزم والبت في مصير الطالب ومستقبله دون تغليب عوامل عديدة تحضر فيها الحاجة للمرونة والتقدير الذي لا يقبل التثبيت والجمود.

كذلك نهيب بالجامعات السعودية أن تتخذ موقفاً أكثر اعتدالاً في اعتماد هذا الإختبار. فمع إنه يمكن الإستئناس به مع عوامل عديدة كالثانوية العامة والمقابلة الشخصية للطالب و معدله التراكمي في السنة الأولى، إلا أن اختبار القدرات لا يمكن أن يصبح حاسماً في مسألة القبول أو تحديد التخصصات. ولدينا من أمثلة الجامعات الكبرى في الغرب والولايات المتحدة بالذات (وهي البلد المنشأ لهكذا اختبارات ) ما يؤكد إمكانية صرف النظر عن هذا الإختبار كلياً إذا لزم الأمر وذلك توخياً من تلك الجامعات للعدل والإنصاف ولكي لا يحدث غبن للطالب بناء على اختبار لا يقيس إبداعاً ولا يقرر أهلية بقدر ما يسعى لمقاربة قد تصيب وقد تخيب. أما في خارج بلدان منشأ هذا الاختبار فإننا نجد دولاً صناعية متقدمة لم تعتمد هذا الاختبار نظراً للبون الثقافي والاختلاف بين الشعوب في طرق التعاطي مع المعرفة والإبداع.

أستاذ أصول التربية المشارك
جامعة الملك سعود - كلية التربية



 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد