يعلمني الكلمة الطيبة، ويلهمني لتصويب خطئي، ويرشدني لفعل الخير, ويصدني عن هوة سحيقة، ويثني على إنسانيتي الضعيفة، ويعلمني الإصغاء لحسن القول, ويحاضر عن الحكمة وضبط النفس، ويدلني على المعرفة المثرية للعقل......
.....ولكن..!! يغالط في أشياء كثيرة, ويصر على رأيه, ويتعامى عن الحقيقة, .. ويعقد حاجبيه بتهكم،.. ويرفع عقيرته بالصراخ.. ويلوح بيديه ويصم أذنيه عن سماعي.. فقلت في نفسي يا له من أحمق ساذج.. صدق قول القائل:
لكل داء دواء يستطب به
إلا الحماقة أعيت من يداويها
مثل هذا النموذج نشاهده كل يوم وفي كل موقع من مواقع الحياة, يعكر بحضوره حياة راكدة مطمئنة نتيجة ما يحدثه من صخب بحركاته البهلوانية والمشفوعة بافتراءاته وأكاذيبه السمجة, لشيء يكمن في نفسه, فالشيطان يكمن بالتفاصيل!.. ولكن هيهات كيف الحصول على (التفاصيل)؟.. حيث ليس باستطاعتك أن تضبطه في وقائع كثيرة يفتعلها بغير (ناموس) ومن ثم يزوغ منها كما يزوغ - الناموس-.
ذات يوم كنا في أمسية ثقافية بنادٍ ثقافي.. فكان المتحدث الضيف المحاضر يلقي كلمته ومن ثم توالى الحضور بطرح أسئلتهم وإذ بشخص ينبري من بين الحضور -ومع الأسف كان بجانبي- ليقاطع أحد السائلين.. وهو يقول له (أجلس وأرحنا حسبنا الله عليك).. هذا المنطق الأهوج من هذا الشاب وجهه إلى رجل فاضل كاتب اقتصادي ومن وجوه المجتمع الجداوي، وهو أيضاً العضو بمجلس الشورى سابقاً وله مكانته الاجتماعية.. ومقاطعته بهذه الطريقة الفجة من قبل هذا الشاب الغريب عن الوسط الثقافي شيء مخجل للغاية, فتجاهل السائل فضاضة القول, واستمر يسأل المفكر، الذي كعادته يشبع السائل، بل الحضور في إثرائهم من المعارف والعلوم المستنيرة الشيء الكثير.
نعم الثقافة ليست حصراً على فئة عن فئة أخرى, فهي مشاعة للجميع, ولكن مثل هذا التدخل السافر, هو ما يعيق ويكدر الخواطر, الناتج عن محاولة البعض في إفسادها, في طرح أسئلة تهكمية واستفزازية، وهذا ما حصل ويحصل دائماً في الكثير من الأندية الثقافية, ولكن.. السؤال: لماذا يحصل كل هذا ولصالح من؟!!
العلم عدو الجهل.. فالعلم ثماره العلوم والمعارف الثرية التي تبقى خالدة في وجدان الإنسان, بعد أن صقلت مواهبه واستقام عوده وأوده في حياة كريمة فاضلة بين مجتمعه.. والجهل أداة هادمة للمرء الذي لم ينل نصيبه من العلم ويراوح مكانه مابين الجهالة والانغلاق على نفسه!!.. وهذه ليست مقارنة أكيدة ولكنها تشير لما ذهبنا إليه في هذه السطور, وبمعنى آخر فكم من متعلم يبصر الحقيقة ماثلة أمامه ولا يبصرها، فبصره في وادٍ وبصيرته في واد آخر, مثلما أن هناك جاهلاً لم ينل حظاً وافراً من التعليم ولكن بفطرته السوية يمكنه أن يكون بأنه قادر يوائم مابين البصر والبصيرة ويسير على إيقاع حذر..إلا أنه يبقى خاضعاً لعاملين، عامل الوراثة وعامل الوسط, فقد ورث غرائزه من آبائه وينفعل بالوسط الذي يحاول أن يتماهى معه ويدعي صفة كمال المعرفة, وهذا ما نلاحظه عند الكثيرين الذين لم ينالوا حظاً وافراً من العلم في تطوير مفاهيمهم المعرفية مكتفين ب(كتب) التلقين التي تغيّب العقل عن الأفكار والآراء التنويرية, متخذين سبل المبالغة في الجمود والتقاليد.. يقول (الجاحظ): (إذا رأيت رجلاً يقول لك، ما ترك الأوائل للأواخر شيئاً فأعلم أنه يريد أن لا يفلح).
نعم لا بد من احترام آبائنا وأجدادنا والاستنارة ببعض آرائهم، ولكن يجب أن لا تتعارض مع تغير سنن الحياة التي نود أن نرتقي بها لمصاف حيوات متناغمة مع العصر الحديث, ونتقي سبل الجهل والتجاهل عند البعض منا، فلا نبالغ حد التقيد بأفكارهم وآرائهم في شئون حياتنا التي يجب أن نرسمها ونختطها وفق مفاهيم علمية ثقافية جديدة ومتجددة على الدوام.. فالعلم بحر زاخر بشتى صنوف العلوم والمعارف, ومهما حاولنا الاغتراف منه سيبقى ينقصنا الشيء الكثير منه لكي نتعلم التعلم الحق في هذه الحياة العريضة المتعددة الوجوه والاتجاهات. فنحن لا ندعي الكمال ولكننا ننشد صفة الكمال لذلك الفن (الثقافي) المعرفي, المدروس دراسة وافية لكل المعطيات الإيجابية, فالمثل يقول:
(إذا أردت أن تنظر إلى أمة فأنظر إلى ثقافتها) فمن هنا لزم علينا أن نتفاعل ونتفاءل في الحياة لنكون أمة ذات ثقافة راقية, وإلا سنبقى محدودي المعارف الثقافية, تنقصنا أشياء كثيرة بحياتنا الثقافية عامة.. فنحن بأمسّ الحاجة إلى رؤى واضحة المعالم نطهر بها نظرنا نحو مستقبل مشرق قوامه الصبر والعمل الدائب الذي سيكون حليفه النجاح.