ما تم إنجازه من تأسيس لمشاريع التعليم في المملكة سيعود بالنفع الكبير على أبناء الوطن؛ فمشروع الملك عبدالله - حفظه الله - للتعليم الجامعي والابتعاث الخارجي يؤسس لجعل مسيرة بناء الإنسان في مقدمة مشاريع التنمية، وسيكون عائد المشروع كبيراً على الوطن وعلى مستقبل الأجيال القادمة؛ فانتشار الجامعات في أنحاء المملكة يعد في حد ذاته إنجازاً سيخفف من دوافع الهجرة إلى المدن الرئيسية، وسيجعل من الجامعة في المنطقة النائية مناراً للتنوير ولتطوير القدرات الوطنية عند مختلف الفئات، كذلك سيؤدي إدخال الشركات العملاقة كأرامكو السعودية في المشاركة في تأسيس جامعات على مستوى عال إلى زيادة التواصل بين سوق العمل والتعليم، ويُنتظر من بقية الشركات الكبرى والبنوك المشاركة في ضخ خبراتها في بناء جامعات تلبي طلباتها في السوق المحلية..
فالانفجار السكاني الذي حدث بسبب الطفرة المادية والتركيز على الجامعات النظرية في مراحل سابقة، ثم الاعتماد على الطاقات البشرية المستوردة في عمليات التنمية أحدث ظاهرة الانفصال بين مجتمعين، أحدهما على قدر جيد من المهنية والحرفية، لكن أغلب أفراده من خارج الوطن، وآخر أغرقته جرعات المادة في أعرافه الصحراوية والقبلية، لترده مسافات إلى الوراء حيث مجتمع القبيلة والعائلة الكبيرة؛ ليهجر رب العمل حرفته الزراعية أو المهنية، ويبدأ مهمة البحث عن مكانته في القبيلة والأسرة، لتعود لمشيخة القبيلة وكبير الأسرة مكانتها القديمة، بعد أن تم تعزيزها بالمال والوجاهة..
كان أهم إنجاز للطفرة المادية استبدال وسائل انتقاله واتصاله القديمة بأخرى حديثة؛ ليصبح من خلال الدخل المادي العالي وعلاقاته الاجتماعية رقماً صعباً في مجتمعه الصغير، ومثلهم الأعلى، وتبدأ مرحلة البحث في الماضي، والتنقيب عن فخوذ القبيلة أو العائلة التي تاهت بسبب الحروب والجوع والجفاف، ثم العمل على إعادة الحياة لشجرة العائلة، ورد الفروع والأغصان إلى الجذر، ثم العمل على رصد الأموال والأنشطة الاجتماعية للحفاظ على صورتها النقية من شوائب الزمن الغابر..
لن يكون من السهل إعادة المجتمع إلى فترة ما قبل الطفرة، حيث يعمل المواطنون في مهنهم دون شعور بالدونية؛ لأن ما يحدث الآن من اجتياح للعمالة غير السعودية في سوق العمل سيجعل من الحل أصعب مع مرور الوقت، وخصوصاً عندما تضخ مشاريع التعليم الجديدة خريجيها المواطنين إلى سوق العمل ثم لا يجدون فرص عمل في وطنهم، وستكون مواجهة ذلك في غاية الصعوبة؛ فالسوق المحلية أصبحت تزخر بمفهوم جديد للقبيلة، الذي يتبوأ الكفيل فيه موقع الشيخ والعمال أفراد القبيلة؛ إذ لا يكترث الشيخ الجديد إلا باستمرار موارده من عماله، كما كان شيخ القبيلة في مرحلة ما قبل التوحيد، الذي كان يرسل أفراد قبيلته في غزوات منظمة لجلب الغنائم بمختلف الوسائل المتعارف عليها في ذلك الزمن..
المثير في الأمر أن قانون الاستثمار الأجنبي أدخل مفهوم الكفيل أو الشيخ الجديد عند المستثمر أو المقاول الأجنبي، الذي يحق له حسب النظام استقدام عماله من الخارج، فقد استغل بعضهم قانون الاستثمار الأجنبي؛ إذ أعجبته الطريقة السعودية وأطلق عماله في السوق يعملون بحرية مقابل إتاوة شهرية، وهذا لا يعني أنه ليس هناك مشاريع استثمارية أجنبية مجدية، لكن العلة حسب وجهة نظري تكمن في قبول المقاولين الصغار كمستثمرين أجانب رغم أنهم لا يملكون الخبرة والفائدة المرجوة التي ما زلنا ننتظرها من خطوة الاستثمار الأجنبي..
خلاصة الأمر أننا نحتاج إلى إعادة نظر في مسائل عديدة؛ وذلك لمواكبة النقلة التعليمية في الوطن، وقبل حدوث الطفرة البشرية، ويأتي في مقدمتها القضاء على مشيخة الكفيل الذي يتاجر بعمالته في السوق المحلية، كذلك إصدار قوانين تفرض على الشركات والمؤسسات التي تعمل في المبيعات وخدمات النقل البدء في توظيف المواطنين في أسواقها المركزية، وفتح المجال مرة أخرى لتوطين بائعي البقالات الصغيرة وسوق سيارات الأجرة، ولن يحدث هذا دون الاستعداد مبكراً لمواجهة مشايخ اللوبي التجاري القوي في المجتمع.