ما أوضحته قيادة وطننا العزيز - وعلى رأسها خادم الحرمين الشريفين زاده الله توفيقاً - في الأيام الأخيرة بالنسبة لما يحيط بالقضية الفلسطينية من مختلف وجوهها أمر يثلج صدور المؤمنين المخلصين لهذه القضية
وهو يدل على تمسُّك ثابت بموقف مشرِّف تجاه المسائل الجوهرية، وفي طليعتها انسحاب الصهاينة من الأراضي التي احتلوها عام 1967م - وأهمها القدس الشرقية -، والاعتراف بحق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى موطنهم فلسطين، التي تشرَّدوا منها نتيجة ما ارتكبته عصابات الصهاينة الإرهابية من مجازر ضد أهل تلك البلاد المباركة، وذلك عام 1948م، وكلا الأمرين: الانسحاب من الأراضي المحتلة، والاعتراف بحق العودة، مما أصدرته الأمم المتحدة من قرارات.
وإذا كان ما أوضحته قيادة وطننا العزيز مؤخراً قد أثلج الصدور، وقدَّره المخلصون والمنصفون حق التقدير، فإن كل متأصل في تاريخ القضية الفلسطينية يتضح له أن موقف هذه القيادة المشرِّف المقدر ما هو إلا سير على نهج قويم وضع أسسه وخطوطه العريضة مؤسس وحدة هذا الوطن، الملك عبد العزيز، تغمده الله برحمته ورضوانه، وسار عليه سيراً محموداً أبناؤه الكرام، الذين خلفوه في الحكم.
لقد كان الملك عبد العزيز ببصيرته النافذة يدرك غاية الإدراك ما حلَّ بأهل فلسطين من ظلم وضيم على أيدي الصهاينة المؤيدين من قوى عالمية ذات صولة وجولة في مقدمتها بريطانيا، رأس الغدر بأمتنا، وواضعة بذرة شجرة الصهيونية الخبيثة في فلسطين، وذلك بوعد بلفور المشؤوم، ثم برعاية تلك الشجرة تحت انتدابها حتى أصبح طلعها رؤوس شياطين، ولم تقرَّ عينها حتى رأت العصابات الصهيونية قادرة عسكرياً على تحقيق مآربها، واطمأنت إلى أن أمريكا، التي أصبحت القوة الجبارة المهيمنة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، قد أخذت على عاتقها رعاية الشجرة الخبيثة التي بذرت في فلسطين.
وكان الملك عبد العزيز - رحمه الله، قد أدرك - ببعد نظره أن الصهاينة المهرة في التغلغل إلى مراكز النفوذ في الدول التي لها هيمنتها قد باتوا يركزون محاولات تغلغهم إلى مراكز النفوذ في أمريكا، التي أوشكت بريطانيا أن تصبح تابعة لها في مواقفها السياسية، ونجح أولئك المهرة الصهاينة في محاولاتهم كل النجاح، ومع أنه كان لأمريكا - في تلك المرحلة التاريخية بالذات - ما قد يغري أي حاكم عربي بالسعي للحصول منها على ما يصب في مصلحة بلاده، أو في مصلحته الذاتية فحسب، فإن الملك عبد العزيز قد جعل من قضية فلسطين أولوية في اتصالاته بأمريكا، ولقد بذل كل جهد مستطاع ليظهر لقادتها عدالة تلك القضية، مؤكداً رفضه لأي شيء يمس حقوق الشعب الفلسطيني، وفي مقدمة ما كان مرفوضاً - بطبيعة الحال - الاعتراف بشرعية وجود دولة للصهاينة في فلسطين.
وما حاد أبناء الملك عبد العزيز خلفاؤه في الحكم، عن نهجه عموماً، ولا ابتغوا إلى غير ذلك سبيلا، لقد حاول عدد من رؤساء أمريكا ووزراء خارجيتها إغراءهم بمختلف الوسائل كي يوافقوا على إقامة أي نوع من الاتصال بين المملكة والكيان الصهيوني، لكنهم فشلوا فشلا ذريعاً، - ولله الحمد والمنة على توفيقه - وأنَّى لمن هو من أبناء ذلك البطل العظيم، والشهم الهمام، أن يستجيب لإغراءات من لا يكنون لأمتنا ودا، ولا يرون لدائرة عداوتهم للمسلمين حدا.
على أن مما يزيد في عظمة موقف قيادة وطننا الحازم، الذي أوضحته كل الإيضاح بشجاعة في الأيام الأخيرة، أنه يأتي في ظروف تمادى فيها متمادون كثيرون من زعماء أمتنا في تنازلاتهم عن ثوابت القضية الفلسطينية، مواقف سياسية موضحة، وتصرُّفات عملية مشاهدة، كما تمادى الصهاينة خلالها في تغطرسهم، تحدِّياً لفظياً، وارتكاب جرائم تهويد للأراضي المحتلة، ولا سيما القدس، تحدِّياً عملياً.
لقد أصبح يوجد من زعماء أمتنا - مع الأسف الشديد - من ينادون الدول الإسلامية بالاعتراف بشرعية الكيان الصهيوني، والتطبيع معه، وأصبح يوجد من هؤلاء الزعماء من يصرِّحون بأنه يجب أن يكون التطبيع مع ذلك الكيان متزامناً مع إيقافه بناء المستوطنات (المستعمرات) فحسب. وهذا بالضبط، ما تنادي به أمريكا حليفة الكيان الصهيوني الاستراتيجي المخلصة له كل الإخلاص، وأصبح هناك من يقيم مشروعات اقتصادية مع الصهاينة مجحفة بحق أقطارهم الوطنية ذاتها.
أرأيتم تدهوراً في الإرادات وتخلِّياً عن المواقف الصحيحة مثل ذلك التدهور وهذا التخلِّي؟ في المواقف الصعبة تتضح أصالة المتخذين لهذه المواقف من عدم أصالتها، ولهيب الجمر هو ما يميز الجوهر ويصقله.
اللهم أر الجميع الحق حقا، وارزقهم اتِّباعه، وأرهم الباطل باطلاً، وارزقهم اجتنابه.