لعل السبب وراء التأثير الفاعل للتقارير (سلسلة تقارير التنمية الإنسانية العربية) يكمن في أن أطروحاتها الرئيسة تعتبر الإصلاح أمراً ضرورياً في المنطقة العربية وأن التغير الذي يمكن أن يكتب له الاستمرار لن يأتي إلا من الداخل.. حسبما عبرت هلين كلارك مدير عام برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.....
.....فما فتئت تقارير التنمية الإنسانية العربية تثير نقاشاً حاداً منذ أن طرح التقرير الأول عام 2002 النواقص التي تعيق مسار التنمية بالمنطقة العربية، وهي: الحصول على المعرفة، والحريات السياسية، وحقوق المرأة وتمكينها.. وقد ظهر الشهر الماضي تقرير 2009 الذي سأستعرض أهم ما جاء فيه، لأقوم بمناقشته في المقال القادم..
(تحديات أمن الإنسان في البلدان العربية) كان عنوان التقرير، الذي تفحص أوضاع التنمية البشرية، لكن هذه المرة من خلال عدسة أخرى هي أمن الإنسان. والتقرير كما قدمت له هلين كلارك، دعا صناع السياسة، فضلاً عن جميع الأطراف المعنية، إلى إعادة النظر في المفهوم التقليدي للأمن المتمحور حول الدولة وأمنها، بالاتجاه نحو التركيز على أمن الأفراد وحمايتهم وتمكينهم.. وتحرير الإنسان من التهديد الذي يعترض حياته وحريته..
وكما أوضحت أمة العليم السوسوة المدير الإقليمي بأن نقطة الانطلاق لهذا التقرير يوضح أن أعداداً كبيرة من الناس في المنطقة العربية لا يزالون يعيشون حياة غير آمنة، كما تعيش أعداد كبيرة منهم تحت أنواع الضغط مما يحول دون إقدامهم - حذراً أو خوفاً - على تحقيق قدراتهم وإمكاناتهم كبشر. ومن ناحية أخرى، أدى التقلب الذي شهدته الأسعار العالمية للمواد الغذائية مؤخراً، والأزمة الاقتصادية العالمية إلى دفع مزيد من الناس نحو الفقر وسوء التغذية وتردي الرعاية الصحية. وتترك أنظمة العناية الصحية العديد من الناس غير مشمولين بخدماتها. بينما يبدو شبح ندرة الموارد المائية في الأفق كمصدر تهديد وجودي.
كما أوضحت أن النهج المتبع في التركيز على أمن الدولة أكثر من التركيز على أمن الناس أدى إلى إضاعة فرص مؤاتية لضمان أمن الفرد، مما يضعف اللحمة التي تشد الدولة إلى مواطنيها. وعلى المدى الطويل فإن الحكومة التي تبحث عن ترسيخ أمن الدولة دون أن تستثمر في أمن الإنسان هي حكومة لا تحقق أيَّاً منهما.. فأمن الإنسان وأمن الدولة وجهان لعملة واحدة.
وقد نظر التقرير من خلال هذا المفهوم ليحدد سبعة أبعاد (مخاطر) أساسية مؤثرة في حياة الناس: الأمن البيئي، أداء الدولة في ضمان أمن الإنسان، أمن الإنسان بالنسبة إلى الجماعات الأضعف (خاصة المرأة)، الأمن الاقتصادي (البطالة والفقر)، التغذية والأمن الغذائي، الصحة، التدخل العسكري الأجنبي والاحتلال. وقد شمل كل بُعد من هذه الأبعاد فصلاً خاصاً به، ليصل التقرير في نهايته إلى ملاحظات ختامية.
وفي الأخير هناك الملاحق التي وقعت في أكثر من خمسين صفحة، وهي عبارة عن جداول توضح بلغة الأرقام درجة أداء الدول العربية ومستوى مواجهتها للتحديات. وشمل الملحق الأول جداول إحصائية عن التنمية البشرية (31 جدولاً) تعطي مؤشرات مهمة جداً وخطيرة في كافة القضايا المشار إليها، ومن أهمها: مسألة الأداء الاقتصادي وعدم مساواة الدخل والإنفاق والبطالة، الجريمة والعدالة، المساواة، تمكين المرأة ومشاركتها التعليمية والاقتصادية والسياسية، حقوق الإنسان.
أما الملحق الثاني فيوضح بالجداول مؤشرات الحكم في البلدان العربية شاملاً النوعية المؤسساتية من حيث: التمثيل والمساءلة، الاستقرار السياسي، فعالية الحكومة، حكم القانون، ضبط الفساد.. إلخ. وقد تناول الملحق الثالث استطلاع رأي حول أمن الإنسان في أربعة بلدان عربية (الأراضي الفلسطينية المحتلة، الكويت، لبنان، المغرب) مشتملاً على مجموعة من السياقات السياسية والثقافية.
والتقرير محاولة للبحث في الإجابة على السؤال: لماذا كانت العقبات التي تعترض سبيل التنمية في المنطقة عصية على الحل؟ ويرى التقرير أن الإجابة تكمن في هشاشة البنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية في المنطقة، وفي افتقارها إلى سياسات تنموية تتمحور حول الناس، وفي ضعفها حيال التدخل الخارجي. وتضافر هذه العناصر لتقويض أمن الإنسان، وهو الأساس المادي والمعنوي لحماية وضمان الحياة، ومصادر الرزق، ومستوى العيش الكريم للأغلبية.
إذن ينبني التقرير على مفهوم أمن الإنسان باعتباره الركيزة الأساسية للتنمية البشرية. فالأمن والتنمية عنصران يكملان بعضهما ويعزز أحدهما الآخر. يضاف إلى ذلك أن لأمن الإنسان علاقة أساسية بحقوق الإنسان، لأن احترام حقوق الناس الأساسية هو الذي يمهد السبيل لخلق ظروف مؤاتية لتحقيق أمن الإنسان. وبناء على ذلك، يُعرِّف التقرير أمن الإنسان بأنه: تحرر الإنسان من التهديدات الشديدة، والمنتشرة والممتدة زمنياً وواسعة النطاق التي تتعرض لها حياته وحريته.
ويمكن قياس أمن الإنسان بانتهاج مقاربتين؛ موضوعية وذاتية، وبمعايير كمية ونوعية.. مع الأولوية للمؤشرات الكمية واستطلاعات الرأي. ففي موضوع الدولة والمواطنين والأمن، يُطرح السؤال: أتكون الدولة العربية داعمة لهذا الأمن أم لا؟ وللإجابة على هذا السؤال يناقش التقرير أداء الدول وفقاً لمعايير تمتُّع الدول بمقومات الحكم الرشيد. ويحلل ما إذا كانت تلك الدول تحوز على رضاء مواطنيها، وتساند حقوقهم وتضمنها لهم.
ويعتمد التحليل على أربعة معايير هي (1) مدى قبول المواطنين لدولتهم، (2) التزام الدولة بالعهود الدولية الخاصة بحقوق الإنسان، (3) كيفية إدارة الدولة لاحتكارها حق استخدام القوة والإكراه، (4) مدى قدرة الرقابة المتبادلة بين المؤسسات على الحد من إساءة استخدام السلطة. ويخلص التقرير إلى أن حالات من التقصير الكبير والمتمادي في تطبيق هذه المعايير كثيراً ما تجتمع لتجعل من الدولة مصدراً يهدد أمن الإنسان، بدلاً من أن تكون سنداً له.
وفي موضوع الفئات الضعيفة الخافية عن الأنظار يركز التقرير على العنف ضد النساء، حيث ما زالت أنماط القرابة الأبوية والتمييز ضد المرأة والهيمنة الذكورة متأصلة، وتكبل المرأة العربية عموماً. ومن الصعب قياس مدى انتشار العنف ضد النساء في المجتمعات العربية، فذلك من الموضوعات المحظورة في ثقافة تتمحور حول السيطرة الذكورية. ومعظم هذا العنف غير المنظور يمارس في البيوت على الزوجات والشقيقات والأمهات. وعدم الإبلاغ هو الشائع.. وتعد (جرائم الشرف) هي الشكل الأسوأ سمعة بين أشكال العنف ضد النساء. وفي بعض الحالات يقف القانون إلى جانب من يرتكبون تلك الجرائم عن طريق تخفيف العقوبات عليهم.
مثل تقارير التنمية الإنسانية العربية السابقة فهذا التقرير، الذي يقع في 288 صفحة، تم إعداده من نخبة من الخبراء والمثقفين العرب على مدى سنتين.. وكذلك مثل التقارير السابقة فليس هدف التقرير أن يكون بياناً أو وثيقة سياسية تحريضية بل نظرة تحليلية هادئة ونقد ذاتي لحث الجمهور والمسؤولين والمثقفين العرب على طرح تحليل واع وشامل وإطلاق حوار بناء قائم على المعرفة والمعايير الموضوعية ولغة الأرقام..
alhebib@yahoo.com