يختزن الخاطر معيناً لا ينضبُ له قاعٌ عن ذكريات الصِّبا، وبخاصة تلك المرتبطة بفترة الدراسة الجامعية في أمريكا.. مبتعثاً من (وزارة المعارف)، كان الطالب منا آنذاك ينعمُ بما يفتقده نظيره اليوم بالنسبة لتأشيرة الدخول إلى تلك البلاد شبه القارة، إذ كان يُمنَح تأشيرةً (شبه دبلوماسية) تُسمى اصطلاحاً الـ(2-A)، وذلك بموجب اتفاق خاص بين البلدين، ولم يكن منحُها يستغرق سوى فترةٍ قصيرة جداً مقارنةً بما يحدث اليوم!
***
كان من أبرز مزايا ذلك النمط من التأشيرات أنه يُمكِّن حاملها متى شاء من العمل بنظام الساعات خارج أوقات الدراسة، وما يتقاضاه لا يخضع ل (مسطرة) الضرائب المحلية، ربَّما لأن المردودَ المادي له كان زهيداً في معظم الأحوال، ورغم ذلك، كان يمثِّل (مورداً) إضافياً تُقضى به حاجاتٌ، خصوصاً ما يتعلق بالسيارة، وقوداً وصيانة، ناهيك بما تستنزفه قسائمُ المخالفات المروريةِ متى وُجِدت!
***
* عُدتُ إلى المملكة ذاتَ صيفٍ لزيارة الوالديْن والأهل، وكان بعضُهم يقيمُ في مدينة جدة، ثم آن موعدُ الإياب إلى أمريكا لاستئناف الدراسة، فحملتُ جواز السفر الخاص بي إلى السفارة الأمريكية في جدة طلباً للتأشيرة، وقدمته إلى الموظف المختص بها، فأشار إلى ضرورة مراجعة إدارة جوازات جدة لتجديد صلاحية الجواز وأن ذلك شرط أساسي لمنح التأشيرة.. وحين ذهبت إلى إدارة الجوازات في وسط جدة، ألفيتُها مكتظة بالبشر، خصوصاً ما يحيط بمكتب مديرها العام، وكن من العُسْر العَسِير اختراقُ تلك الجموع بجسدي الهزيل وقامتي المتواضعة.
***
* وهنا، طرأتْ لي فكرةٌ لم أتردَّدْ في تنفيذها، فعدتُ إلى منزل الأهل واستعرتُ أحد (مشالح) سيدي الوالد -رحمه الله-، وعدتُ إلى إدارة الجوازات مُرْتدياً ذلك المشلح، فإذا الجمُوعُ مكانها، لكن ما إنْ رآني أحدُهم حتى أفسح لي الطريق، واقْتَدى بفعله كثيرون، وما هي سوى دقائق حتى كنتُ أصافحُ مدير عام الإدارة وأطلب منه إنجاز مهمتي، فرحب بي ووجَّه بمساعدتي في الحال، ومرت نصف ساعة وأنا في مكتب المدير قبل أن أحْملَ جوازي مجدداً إلى السفارة الأمريكية وأنالَ التأشيرة في اليوم نفسه، ثم أسافر إلى أمريكا في اليوم اللاحق.
***
* يومئذْ، شكرتُ ل(المشلح) (وساطتَه) القيمة إذ منحني جاهاً (مستعاراً) مكّنني من إنجاز مهمةٍ عسيرة بحجْم مهمةِ (تجديد جواز) مخترقاً لذلك الغرض تلالاً من البشر، ومحقِّقاً بفضله في دقائق ما كان إنجازه يستغرق أياماً!
***
همسة من محب لهذا الوطن:
* أقول لأبناء وبنات وطني حيثما كانوا أو كنّ في ربوع الحياة، اتقوا الله في السر والعلن وتمسكوا بثوابت وطنكم، واحموا أبناءكم وبناتكم فكراً وروحاً وجسداً، من عبث المهووسين بحمّى الدمار وهمجية الفوضى، و(جاهلية) الظلام، في أيّ صورة جاءت، ولأي غاية سُخِّرت، وبأيّ رداء اتّزرت!