قالت: استيقظت على صريره وأنينه، ولا أقسى على النفس من ألمه ودموعه, ولا أرحب في النفس من بهجة لغير نهره وسروره..
تقول: سألته ما بك يا لساني وحالي، يا وعيي ونبضي، يا لمحتي وغوصي، يا رحيلي وإبحاري؟..
تقول: قال: أسيح فوقها بيضاء فأنقشها بأمل البائسين، وبأحلام الطامحين، وبدواء المبتلين، يتوجعون فأبلسم أوجاعهم، ويألمون فأواسي آلامهم، يخرسون فأنطق بألسنتهم، ويصمُّون فأسمع بأصواتهم..
على مدى التأريخ أنا من أقسم الإله بي، فقال خير من قائل: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ}.. وحين أسطِّر فإنه تعالى يأمر بقراءة ما أبصم على هذه المساحات الخالية فأحيلها إلى جنات معرشة، أو إلى نار ضارمة..
تقول: وواصل هديره وأنينه وهو يقول: عقول الناس أشكِّلُها، وتأريخهم أدوِّنُه، ونبضهم أشيعَه، وريحهم أنقلها، ونسائمهم أنشرها..
فهم بدوني جهلة فارغون، وبلا نقشي ورسمي أميون لا يفقهون، أزيد صدورهم تنويرا، وقوام أخلاقهم تماسكا ودعامة، إن كنت في مضمار سِلْم أمِنَت الحياة بقولي، وإن كنت في مضمار شرٍّ باءت نتائجها ببوصلتي..
تقول فسألتُه: ما الذي أيقظك حانقا قلقا، هادرا نَبِراً؟..فأجابني: تبارت معي على ساحات الحياة القدم، تركض حول كرة معبأة بالهواء لا بالحبر، تتقاذفها قدم وأخرى، يتنافس في مجالها الناس، ويتبارون في تثمينها الكبار والصغار، بل الدول والرعاة، يسخِّرون لها المال والأنفس, ويتبارون في اكتسابها وانتمائها، وما التفتت إليَّ عقولهم، ولا فارقوا بين حبري وغبارها، ولا بين تِبْري وتِبْنها، ولا بين ما أصبُّه في العقول وما تصبُّه فيها، أنا أدرُّ دمي، وهي تدرُّ دماءهم، أنا أضخ ما يغذي، وهي تضخ ما يُفقر..
أفبعد هذا من مقارنة بين مضماري ومضمارها.. بين قيمتي وقيمتها؟
تقول: وهدأ قليلا وهو يحوقل ويسترجع، ثم ختم بقوله: ولكنني أتأسى بقلة هم الخاصة الذين ينهلون لعقولهم من صحائفي، ويعودون مطهرين من أغبرة تلك القدم، بأنفس قوية، سليمة من أدواء الفراغ.
تقول: فنهضت معه، وبدأنا المضمار..