الرياض - خاص بـ(الجزيرة):
جاءت الشريعة الإسلامية لتحقق التواد والمحبة بين أفراد المجتمع المسلم، وسلامة صدورهم، وحرّمت الشريعة كل أمر فيه إيذاء لهذه الرابطة.. ومع التقدم الإنساني، والتطور الحضاري الذي أبدع فيه العقل البشري بدأ الناس في الانشغال بعضهم عن بعض، بل وأصبحت الكراهية والغل والحقد والحسد سمة لدى بعض الناس، وكثرت الشحناء والبغضاء بينهم.
في ظل ذلك.. كيف يمكن أن نعالج مثل هذه الأمراض القلبية في المجتمع المسلم، وأن نصل بالإنسان إلى سلامة الصدر، وإبعاد قلبه عن الغش، والحقد، والحسد تجاه إخوانه؟
التقارب بين الناس
بداية يقول د. مانع بن علي المانع - الأستاذ المساعد بقسم الثقافة الإسلامية بكلية الشريعة بالرياض: إن الشريعة الإسلامية جاءت بكل خير، وعدل، ومحبة؛ فالشرائع كلها تنمي المحبة والمودة والتقارب بين الناس؛ فالصلاة والحج والصيام والزكاة والصدقات تقرب الناس بعضهم لبعض، ولكن مع التطور والتقدم الإنساني، والانفتاح الثقافي، وانشغال الناس بالماديات الحديثة، أصبحت العلاقات ضعيفة وسيئة، وأصبحت العداوات والشحناء والبغضاء سمة العصر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، مصداقاً لحديث النبي صلى الله عليه وسلم:(دبَّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء. أما إنها الحالقة، لا أقول حالقة الشعر ولكن حالقة الدين).
والشحناء والعداوات أمراض قلبية توغلت في القلوب بسبب ضعف الإيمان، بينما سلامة الصدر من الأعمال القلبية المهمة التي هي شرط لدخول الجنة، قال تعالى:{يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}
لهذا كله أقترح وأطرح موضوع سلامة الصدر؛ لأنه جدير بالعناية والاهتمام؛ ولهذا يجب أن يطرح في وسائل الإعلام، والمنابر، واللقاءات الرسمية والعائلية، وفي مناهج التعليم، والمحاضرات، والندوات، ولن نحقق الوحدة والقرابة والتقارب والوطنية في مجتمعنا إلا بتنمية المحبة، وسلامة الصدر يعبر عنه العلماء بقولهم: (التخلية قبل التحلية)، إنه موضوع جدير بالعناية والاهتمام، ولن يتحقق إلا بأمور منها: إفشاء السلام، وهذه تحية الإسلام تتعرض لأزمة وجفاء، ومعالجة الأزمة الأخلاقية التي نعيشها، إنها والله أزمة كبرى ولا أبالغ، وتشجيع الروابط الاجتماعية والأسرية والوطنية وإعداد الدراسات لها، وتنمية روح التعاون والترابط والانتماء لهذا البلد المبارك، وأن تقوم المؤسسات الحكومية والأهلية بدورها الصحيح، والتوعية والتوجيه وتصحيح المفاهيم الخاطئة عبر وسائل الإعلام المتنوعة، والحث على صلة الرحم؛ فالناس الغالب عليهم في زمانهم هذا القطيعة والكراهية، وتشجيع التوجهات الأسرية في تفعيل الروابط واللقاءات والحوافز والمشاركات الاجتماعية.
التعجب المذموم
ويشير د. عبدالله بن علي سير المباركي - الأستاذ بقسم الاجتماع والخدمة الاجتماعية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - إلى أن مجتمعنا السعودي مجتمع مسلم، يدرك أفراده أن الشريعة الإسلامية المستمدة تعاليمها من كتاب الله وسنة نبيه ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - تقوم أساساً على الأخوة والعدل والمساواة بين المسلم وأخيه المسلم. والحمد لله أن مجتمعنا لا يزال يتمتع بالكثير من خصائص التكافل الاجتماعي والعلاقات الإنسانية التي تنبع في الأساس من كون أفراده يرجون من الله الأجر والمثوبة. إلا أن هناك بعض الظواهر السلبية والأمراض الاجتماعية التي أفرزتها الحضرية وأساليب الحياة المعاصرة (كالكراهية والبغض والحسد والحقد والشحناء) فبدأت تؤثر على طابع العلاقات الإنسانية السليمة التي ينبغي أن يتميز بها أفراد المجتمع المسلم عن غيرهم. إن هذه الظواهر هي من الأمراض الاجتماعية التي ابتلي بها مجتمعنا السعودي، وهي بلا شك ناتجة عن مجموعة من الأسباب يتصدرها هيمنة الشيطان على قلب ابن آدم وملئه بالحسد والكبر اللذين إذا اجتمعا في إنسان كانا المحرك الأول في تعامله الفظ وسلوكه العدائي مع غيره. ومن أسباب الحسد ما يمكن أن نسميه بالتعجب المذموم، وهو أن يحسد الإنسان أخاه الإنسان على ما أتاه الله من فضله سواءً من المال أو الذرية أو الهداية بعد انحراف أو تقصير في حق الله وحق نفسه. ثم إن هناك من أنواع الحسد ما يكون ظاهره محموداً وسلوك صاحبه ينم عن غيرة وحقد، وهذا النوع من الحسد يغلف في إطار المنافسة التي هي في حد ذاتها لا غبار عليها إلا أن الأساليب التي يتبعها البعض مذمومة حتى لو كان الهدف نبيلاً. فها هم أخوة يوسف - عليه السلام - يحسدونه وينون قتله كل ذلك ليظفروا بحب أبيهم، ونرى ذلك أيضاً بين زملاء المهنة الواحدة وبين التجار وحتى بين العلماء والباحثين.
العلاج المناسب
ويؤكد د. المباركي أن جميع هذه الصور من مظاهر الحسد والبغضاء للأسف أصبحت في المجتمع السعودي ضمن الأمراض الاجتماعية التي تصاحب عادة التغيرات الاجتماعية والاقتصادية ومظاهر الحضرية التي أثرت سلباً في حياتنا الاجتماعية، وسلوكياتنا في تعاملنا مع الغير، وما انتشار البطالة والجريمة والسرقة والارتشاء والغش التجاري والفساد الإداري إلا نتيجة مباشرة للبعد عن تعاليم ديننا الحنيف في التعامل والتعاون والتكافل الاجتماعي والعلاقات الإنسانية. ولا أظن أن هناك علاجاً لمظاهر الحسد والغش والكراهية أفضل من التحلي بأخلاق المسلم التي تنبغي، فمن صفات الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه. ومع ذلك فللمختصين في العلوم الإنسانية دور ريادي في التصدي لهذه الأمراض وتشخيصها وتقديم العلاج المناسب خاصةً أنها أمراض ناتجة عن تفاعل الإنسان مع بيئته الاجتماعية وتعقيداتها الوظيفية التي فرضتها عوامل التحضر والمدنية المعاصرة.
وعلى الرغم من وجود هذه الأمراض القلبية والاجتماعية تبقى بفضل من الله صور من التسامح والحب في الله، والعلاقات الإنسانية القائمة على التعاون والتكافل، هي الغالبة في حياة المجتمع المسلم بصفة عامة، والمجتمع السعودي بصفة خاصة.
أسباب الجفوة
أما د. ناهدة بنت عطا الله الشمروخ - أستاذة الفقه المساعد في كلية التربية بجامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن - فتقول: الشريعة الإسلامية بالفعل جاءت لتحقق التواد والمحبة بين أفراد المجتمع المسلم وسلامة صدورهم، ويدل على ذلك كثرة النصوص القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة التي تضافرت على الحث على توثيق الترابط بين المسلم وأخيه المسلم؛ ففي الحديث (مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) كما أن الشريعة الإسلامية أرشدت المسلم إلى مراعاة حقوق أخيه المسلم عليه وحثّته على القيام بها ورتبت الأجر الجزيل عليها, ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس).
فكل هذه الأعمال تزيد الصلة بين المسلمين وتذيب الأحقاد والشحناء التي قد تنشأ في صدورهم من جراء تعامل بعضهم مع بعض وصدور بعض الهفوات والتصرفات التي قد لا يتحملها المرء من زميله في العمل أو الدراسة.. ونحو ذلك. وإن إلقاء التحية بوجه طلق وابتسامة صادقة له أبلغ الأثر في النفوس.
وهذا ما أرشد إليه رسولنا وقدوتنا صلى الله عليه وسلم حيث قال: (لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تحابوا. أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ افشوا السلام بينكم). وقد جاء بالفعل: (أفشوا) وهو يدل على الكثرة، والتفشي؛ فكثرة التسليم وإلقاء التحية مما يثُبت الود والصفاء بين نفوس المسلمين. وجاء أيضاً في الحديث أن من أسباب دخول الجنة: (السلام على من عرفت ومنْ لم تعرف).
وأكاد أجزم - للأسف - أن السلام على من لا يُعرف يكاد يكون من السنن المندثرة حتى بين أوساط الحريصين على تطبيق السنة النبوية عموماً - إلا من رحم الله - بل أصبح السلام على من لا تعرف في بعض المجتمعات ربما من الأمور المنكرة عرفاً؛ لأن الأجيال الحالية لم تعتد عليه ولم تألفه.
الحضارة المدنية
وتوضح د. ناهدة الشمروخ أسباب هذه الجفوة بين الناس عموماً بل وبين أفراد الأسرة الواحدة أحياناً بما أفرزته الحضارة المدنية والتطور التقني الهائل في عصرنا؛ فانشغل جلّ الناس بتلك القنوات الفضائية - خيرها وشرها - وبالشبكات العنكبوتية (الانترنت) وبأجهزة الهواتف المحمولة... وغيرها، فأصبح لكل فرد من الأسرة - في الغالب - جهازه الخاص به سواء الكمبيوتر، أو الهاتف، أو التلفاز، فبات العالم منفصلاً بتفكيره وانشغالاته عن أسرته وإن كان بجسده موجودا بينهم، وهذا لعمري هو غاية في التفكك الأسري والانشغال عن تربية الأبناء والبنات، فمتى سيتعلم الولد من أبيه والبنت من أمها ويتحاورون ويتسامرون إذا كان لكل شخص منهم عالمه الخاص!!
ولوجود هذه التقنيات الحديثة والمتطورة تطوراً متسارعاً بين فترة وأخرى، أصبح غالب الناس في لهاث حقيقي وتسابق محموم للظفر بكل تلك الأجهزة، ومثل هذا الاقتناء يحتاج مالاً وفيراً ومتجدداً طوال الوقت, ومن المعلوم أن هذا المال لا يملكه الكثير من الناس، ومن هنا بدأ التحاسد والتباغض بينهم وبدأت الأسر بالتنافس على امتلاك هذه التقنيات وكُلف رب الأسرة بما لا يطيق فازداد الهم والقلق رويداً رويداً يبدأ بالابتعاد عن دينه ويتسخط على ما قسم له خالقه عز وجل، وينظر إلى ما في أيدي الناس ليرضي أبناءه وليوفر لهم ما يريدون... وهكذا سيكون جلّ المجتمع في قلق وانشغال، وتباغض، وتحاسد، بسبب اللهاث وراء الحقير والتافه من أمور الدنيا، فما الذي سيتبقى من أوقاتهم لأداء حقوق ربهم على أكمل وجه أو حقوق إخوانهم المسلمين؟ وبالتالي ستنشأ أجيال همهم المظاهر الزائفة وتقديمها على كل ما عداها.
علاج الظواهر
وترى د. ناهدة أنه لم يفت الأوان - ولله الحمد - بعد لعلاج هذه الأمراض التي انتشرت في المجتمع المسلم، وهذا العلاج يكون باتباع ما يأتي:
1- الالتزام بالهدي النبوي في بيان حقيقة هذه الدنيا الفانية، وأنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة, وأن الزهد بها بأن تجعلها في يدك لا في قلبك، أي تتمتع بملذاتها لكن لا تشغلك عن طاعة ربك ولا عن واجبات دينك وحقوق إخوانك ومجتمعك.
2- الإيمان المطلق بأنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، كما جاء في الحديث أن الله تعالى قد كتب كل ما هو كائن إلى يوم القيامة، وأن الصحف قد جفت والأقلام رفعت، فعلام يحسد المرء أخاه على ما أعطاه ربه وهو أحكم الحاكمين؛ وفليرضَ بما قسمه له عز وجل؛ قال تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ} فكأنه - والعياذ بالله - يتهم الخالق في قسمة الأرزاق، وليدعو لأخيه المسلم بالبركة وليسأل الله تعالى من فضله، فإنه لا راد لفضل الله، وليأخذ بأسباب الرزق، فكل ميسر لما خُلق له.
3- الحرص على حضور مجالس الذكر والاستماع للمحاضرات المفيدة، فإن الذكر والانشغال به يذيب قسوة القلوب ويقرّب من الله تعالى والدار الآخرة، فيشعر بضآلة الدنيا، وعظيم ما هو مقدم عليه من أهوال وحساب بعد الموت، فيُعرض عن توافه الأمور ويهتم بجليلها.