لعل من أبرز سمات هذا العصر كثرة الكلام بحق وبغير حق، فالفضائيات والصحف والمجلات والمواقع وو..كثير منها ميدان رحب لكل عابث، وعاثَ في هذه الوسائل المؤهل وغيره، خاضوا بالحق وبالباطل، وتتعجب من كثرة الخوض وكثرة المجادلين، وتعجب أيضا من كثرة الموضوعات المطروقة في هذه الوسائل، ولعل أبرز ما يلفت النظر أيضاً في هذا السياق الهادر كثرة الحديث عن القضايا الشرعية من كلا طرفي التطرف، طرف الغلو وطرف الجفاء، وطرف الغلو حديثه يكاد ينحصر في قضايا معينة هي قضايا أرباب الغلو منذ عصر الخلافة الراشدة إلى هذا اليوم ولكنها تتغير المسميات والأشخاص ولكن الطريق واحد، والغاية متماثلة، والوسيلة متشابهة، أما طرف الجفاء فيخوض أربابه في قضايا متعددة متنوعة لم تألف الأمة أن يعبث بها أو يشكك فيها، لأنها قضايا متصلة بالدين ومتعلقة بالوحي من مثل: الجراءة على نصوص الوحي، والمطالبة بإعادة تفسيرها وتجريدها من كونها وحياً إليها ومعاملتها كأنها نصوص بشرية قابلة للنقد والرد، ووصف القرآن بأنه وقتي تأريخي ظرفي متعلق بظروف تنزله لا ينبغي أن تنزل نصوصه على غير الواقع الذي تنزلت فيه، والحديث عن القرآن العظيم بأنه لا يتضمن حقوقا للإنسان ولا يتضمن إعجازا علميا، والحديث عن تطبيق الحدود الشرعية، وتضييق مجال القضاء الشرعي، ولمز رجال الحسبة، والحديث عن العلماء وتنقصهم والتشنيع عليهم ووضع المواصفات التي ينبغي أن يكونوا عليها, والتنقص من قيادات الأمة والتشكيك في نزاهتها أو أهليتها - وهم بحمد الله خير قائم على حرمة ودين في هذا العصر - والطعن في حجاب المرأة، وسفرها بمحرم، وقوامة الرجال على النساء، والمناهج الشرعية في المدارس، ووصف اليهود والنصارى بأنهم مؤمنون، بل مسلمون ومن ورثة جنة النعيم، وتوهين نصوص الشرع المتعلقة بالبراءة من الشرك وأهله، والتشكيك في شرعية صلاة الجماعة، وسنية قيام الليل جماعة في العشر الأواخر من رمضان، والتضجر من رفع الأذان عبر مكبرات الصوت من منائر المساجد،... إلى غير ذلك من القضايا العظيمة التي لم تألف الأمة التشكيك فيها تحت أي مسمى حتى في أيام الغزو التتري على الأمة أو أيام الحروب الصليبية فلم يروج لمثل هذا التطرف البغيض في جنبات الأمة.
وهذه الأقوال لا تجد من يقول بها كلها؛ ولكنه توجه جارف وتيار واضح يتستر تحت دعوى الوطنية، ولباس الشفافية، والحرية والنقد الهادف والتغيير الاجتماعي المنشود، أو يتدثر بلباس الدين ويزعم الغيرة على الشريعة والحماية للعقيدة، ولو جمع هذه الأقوال كاتب واحد لكان زنديقا كبيرا. ولكنه تيار جارف، كما قلت يتبادل أعضاؤه المواقع، ويتناوبون الطرح في الموضوعات، فما يطرحه هذا يعززه ذاك، وهكذا دواليك.
وسمة هؤلاء الخائضين في هذه الأقوال والمجادلين في هذه المسائل من كلا الطرفين أنهم لا علاقة لهم بالعلم الشرعي، ولا معرفة لهم بطرائق الجدل الحق، بل هم نكرات في السياق العلمي والمعرفي، ويكاد يكون القاسم المشترك بينهم هو الجهل المطبق والعناد الأحمق، والكبر المقيت، بل بعضهم لما لم يبرز في مجاله الذي لا علاقة له بالعلم الشرعي تطاول على الثوابت وجاس في حرمات الدين فنال من الشهرة نصيبا وافرا؛ ولكنها شهرة في ضلالة وإمامة في غي.
والغريب أن من يبين لهم الحق يصفونه بأنه يعطل مسيرة التنمية ويؤخر الأمة، ويشغلها بتفاهات وقشور، ويجعلون من يعارضهم متهما بالجمود والغلو ويستنكرون من يرد عليهم ولا يقابلون الحجة بالحجة، لكن يقابلون الحجة بالاستهزاء واللمز والتشنيع لأن رائدهم الكبر، وطابعهم الجهل.
وقد يتساءل المرء لم كل هذا التكالب على ثوابت الدين، والتداعي على مقدسات الملة؟ والتشكيك في مسلمات الوحي؟ والنيل من مقدرات الوطن ومكتسباته، لمصلحة من تقرع الأبواب، ولمن تثار الشبه والشكوك، إن رائحة العمالة بادية في بعض ثنايا سطورهم وعباراتهم، وخيانة الوطن تلحظها في بعض كتاباتهم، والجناية على الدين بارزة في كثير من قضاياهم. تارة باسم الإصلاح، وتارة باسم الدين.
وقد أخبر الله سبحانه وتعالى في محكم تنزيله عن أمثال هؤلاء ممن سبقهم إلى هذا المجال المنتن فقال جلّ ثناؤه: (وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) أي: لا محيد لهم عن بأسنا ونقمتنا، فإنهم مقهورون بقدرتنا. قاله ابن كثير، وكما أخبر جلّ جلاله أن صنيعهم هذا صنيع مقيت لا يحبه الله ولا يرضاه، فقال سبحانه وتعالى: (الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آَمَنُوا) فبين أنهم يجادلون بغير حجة وعلم، وأن فعلهم هذا ممقوت عند الله وعند عباده المؤمنين. قال ابن جرير الطبري ومعنى الآية: كبر ذلك الجدال الذي يجادلونه في آيات الله مقتا عند الله، وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا بالله.
وقال جلّ من قائل: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ. ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ) فبين منهجه وأنه يجادل بغير علم، ووصف حاله بأنه ثاني عطفه، وفضح غايته بأن غرضه الإضلال عن سبيله، وبشره بمآله وأنه الخزي في الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة.
وبيّن أيضاً سبحانه وتعالى أن هذا الجدال مآله إلى بوار وخسارٍ، وأنه لن يحقق لهم نتيجة ولن يبلغ أربابه آمالهم من خلاله، فقال جلّ جلاله: (إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أكثر النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) قال ابن كثير رحمه الله: أي: يدفعون الحق بالباطل، ويردون الحجج الصحيحة بالشبه الفاسدة بلا برهان ولا حجة من الله، (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ) أي: ما في صدورهم إلا كبر على إتباع الحق، واحتقار لمن جاءهم به، وليس ما يرومونه من إخمال الحق وإعلاء الباطل بحاصل لهم، بل الحق هو المرفوع، وقولهم وقصدهم هو الموضوع، (فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ) أي: من حال مثل هؤلاء. وقال ابن جرير رحمه الله: وقيل: إن معناه: إن في صدورهم إلا عظمة ما هم ببالغي تلك العظمة لأن الله مذلُّهم.
وفي خبر النبي صلى الله عليه وسلم مع عدي بن حاتم خير عبرة وخير دليل كيف أن النفس قد تأنف من الحق لأمر أو لآخر، وفي هذه القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم جادله وبيّن له بطلان ديانته وما هو عليه، ثم بشره بنصر الله لهذا الدين، وفيها يقول عدي مخبراً عن مقدمه على الرسول صلى الله عليه وسلم: فَخَرَجْت حَتّى أَقْدَمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ، فَدَخَلْت عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَسْجِدِهِ فَسَلّمْت عَلَيْهِ فَقَالَ مَنْ الرّجُلُ؟ فَقُلْت: عَدِيّ بْنُ حَاتِمٍ؛ فَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَانْطَلَقَ بِي إلى بَيْتِهِ فَوَاَللّهِ إنّهُ لَعَامِدٌ بِي إلَيْهِ... ثُمّ قَالَ إيِهِ يَا عَدِيّ بْنَ حَاتِمٍ أَلَمْ تَكُ رَكُوسِيّا؟ قَالَ قُلْت: بَلَى. (قَالَ): أو لَمْ تَكُنْ تَسِيرُ فِي قَوْمِك بِالْمِرْبَاعِ؟ قَالَ قُلْت: بَلَى، قَالَ فإن ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ يَحِلّ لَك فِي دِينِك؛ قَالَ قُلْت: أَجَلْ وَاَللّهِ وَقَالَ وَعَرَفْت أَنّهُ نَبِيّ مُرْسَلٌ يَعْلَمُ مَا يُجْهَلُ ثُمّ قَالَ لَعَلّك يَا عَدِيّ إنّمَا يَمْنَعُك مِنْ دُخُولٍ فِي هَذَا الدّينِ مَا تَرَى مِنْ حَاجَتِهِمْ فَوَاَللّهِ لَيُوشِكَنّ الْمَالُ أَنْ يَفِيضَ فِيهِمْ حَتّى لَا يُوجَدُ مَنْ يَأْخُذُهُ وَلَعَلّك إنّمَا يَمْنَعُك مِنْ دُخُولٍ فِيهِ مَا تَرَى مِنْ كَثْرَةِ عَدُوّهِمْ وَقِلّةِ عَدَدِهِمْ فَوَاَللّهِ لِيُوشِكَنّ أَنْ تَسْمَعَ بِالْمَرْأَةِ تَخْرَجُ مِنْ الْقَادِسِيّةِ عَلَى بَعِيرِهَا (حَتّى) تَزُورَ هَذَا الْبَيْتَ لَا تَخَافُ وَلَعَلّك إنّمَا يَمْنَعُك مِنْ دُخُولٍ فِيهِ أَنّك تَرَى أَنّ الْمُلْكَ وَالسّلْطَانَ فِي غَيْرِهِمْ، وَأيْمُ اللّهِ لَيُوشِكَنّ أَنّ تَسْمَعَ بِالْقُصُورِ الْبِيضِ مِنْ أَرْضِ بَابِلَ قَدْ فُتِحَتْ عَلَيْهِمْ قَالَ فَأَسْلَمْت.
وَكَانَ عَدِيّ يَقُولُ قَدْ مَضَتْ اثْنَتَانِ وَبَقِيَتْ الثّالِثَةُ وَاَللّهِ لَتَكُونَنّ: قَدْ رَأَيْت الْقُصُورَ الْبِيضَ مِنْ أَرْضِ بَابِلَ قَدْ فُتِحَتْ، وَقَدْ رَأَيْت الْمَرْأَةَ تَخْرُجُ مِنْ الْقَادِسِيّةِ عَلَى بَعِيرِهَا لَا تَخَافُ حَتّى تَحُجّ هَذَا الْبَيْتَ، وَأيْمُ اللّهِ لَتَكُونَنّ الثّالِثَةُ لَيَفِيضَنّ الْمَالُ حَتّى لَا يُوجَدَ مَنْ يَأْخُذُهُ. فحري بمن جادل هؤلاء أن يجادل بالحجة الواضحة ويبشرهم بقرب النصر وقرب الفرج لئلا يقتلهم اليأس والقنوط.
إن مسؤولية الكاتب أيا كان موقع النشر الذي ينشر فيه أن يراقب الله في سره وفي علانيته وأن يكون أحرص على مقدرات أمته ومكتسبات وطنه وحقائق دينه من حرصه على نفسه، وليعلم أنه مسؤول بين يدي الله عن كل قول وفعل قال تعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤولًا. وَلَا تَمْشِ فِي الأرض مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرض وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا}إن كثيرا من حركة هذه الأقلام عبر وسائلها تحاول أن تطاول الجبال وأن تخرق الأرض. فليعرف المرء قدر نفسه، ولا يضعها دون منزلتها، ولا يقتحم بها فوق ما تستطيع.
إن الواجب المتحتم على الجميع كبير كل بحسبه فالمسؤولون في القطاعات الشرعية وفي الأجهزة الأمنية وفي المؤسسات التعليمية وفي مراكز البحث وفي وسائل الإعلام والقائمون على مواقع الشبكة، كل أولئك عليهم أن يقفوا في وجه هذا التطرف المزدوج كل فيما يخصه من حيث دراسة هذه المشكلة ومعرفة الأسباب التي أدت إلى ظهورهم وانتشارهم والعوامل التي تحقق لهم أهدافهم والتعرف على الآثار المترتبة على عبثهم وجنوحهم، ووضع السبل التي تجفف منابع مددهم.
وختاما ليعلم الجميع أن الله حافظ دينه ومظهر أمره ومتم نوره، وأن الله سيحفظ على هذه البلاد أمنها واستقرارها إن شاء الله؛ إذ هي مأرز الإيمان، ومنطلق الرسالة، ومهبط الوحي، وهذه البلاد كما هو معلوم لم تخضع عبر تاريخها إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولخلفائه الراشدين، ثم غابت عن واجهة التاريخ حتى أعادها لسدة القيادة الإمامان المجددان المحمدان، ثم جدد التاريخ وقاد المسيرة الموحد طيب الله ثراه، وحمل الراية بيضاء نقية من بعده أبناؤه البررة، وعلى هذا لن يتحقق لهؤلاء الغلاة ولا لهؤلاء المفرطين مقصدهم ولن يتحقق لهم أملهم؛ لأنهم كما قال تعالى: {إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ}. فهذه بشرى بأنهم لن يبلغوا ما أرادوا.
جامعة الملك سعود