أثناء متابعة المجد الفضائية تفاجأت بنشر خبر عاجل يفيد بوفاة الشيخ رحمه الله، فحرصت على التأكد من بعض الإخوة فأكد الأمر وقدم كل منا العزاء لصاحبه ولا يفوتني - هنا - أن أقدم - أيضاً - خالص العزاء والمواساة لأسرة الشيخ، والقيادة وشعب هذا الوطن الكريم.
واستبيح القارئ في عدم التحدث عن تفاصيل حياة الشيخ العلمية والعملية - رحمه الله - لكوني - وللأسف - لست من طلبة العلم الشرعي، ولا حتى طويلب فيه، تاركاً ذلك لمن هم أكثر قرباً وأجل مكانة وعلماً، خاصة وأني - أيضاً - لم ألتق بسماحته - رحمه الله - ولم أجلس معه - عن قرب - إلا مرة واحدة قبل ما يقارب تسع سنوات، حيث زرته - ضحى أحد الأيام - في منزله بمدينة الرياض فرأيت فيه سمة العلماء وتواضعهم وحسن تعاملهم، مما جعل ذلك اللقاء اليتيم لا يزال عالقاً بجنبات الذهن والذاكرة.
إن وفاة العلماء الربانيين - علماً ومنهجاً وسلوكاً - أرزاء وثلم لا تُسد، كما أن برحيلهم تنطفئ سرج أضاءت الطرق والمجاهل لأجيال هذه الأمة. والشيخ - رحمه الله - واحد من أولئك العلماء العاملين بعلمهم والمتتبعين لمنهج سلفهم والداعين إليه - نحسبه كذلك - فكان المربي بسيرته وتواضعه وسمته، والعالم المتفضل بعلمه، والمذكر والواعظ الذي تلج مواعظه القلوب الدائرة والحائرة فتحيا بذكر ربها وتتطهر عما شابها من الذنوب وأدران المعاصي.
إن الأمة كلما رحل عنها علم من أعلامها فكأنما زجت برمح في مقتل حتى أصبحت في هذه السنين المتأخرة تترنح لكثرة وفيات أكابر علمائها وأشياخها، فقد فقدت - قبل سنين قليلة - ثلاثة من جهابذتها في زمنهم هم سماحة العلامة ابن باز الذي بلغ مجموع فترات مكوثه وعبادته ونشاطه العلمي داخل المسجد - حسب أحد الدعاة - (66 سنة)، ثم محدث العصر العلامة الألباني والعلامة ابن عثيمين، وفي الأمس القريب فقدت فضيلة الشيخ ابن غصون والعالم الجهبذ الشيخ الدكتور بكر أبو زيد وغيرهم من العلماء الأجلاء، واليوم تنعى علامتها سماحة الشيخ ابن جبرين رحمه الله، فكأني بحالها المكلومة وهي ترزأ بتتابع رحيل كل أولئك تقول: (ولو كان سهم واحد اتقيته - ولكنه سهم وثان وثالث) وأقول: بل ورابع وخامس وسادس.. مع أن الموت حق لا مفر منه ولا اتقاء، وإلى الله الرجعى.
إن مما يضاعف الأسى أن هذا العصر لا يمكنه أن يجود بمثل من ذكرنا من أولئك الأعلام وأمثالهم الراسين رسو الجبال العاضين على مراداتهم بالنواجذ، والذين نبتوا في تربة ذلك الزمن الجميل، وسقاهم أشياخه، وتشربوا تفاصيل نفثاته وأصالته وسلامة فطرته التي لا تقبل حتى محاولة الزيف أو التصنع، فصاروا ثمرة من ثمار ذلك الزمن الذي طمرته هذه المدينة المنعمة في عصر لا يمكنه إلا أن يصنع علماً مثله، وأجيالاً تتشرب معطياته.
لقد كان سماحة الشيخ - رحمه الله - من أواخر الكبار الذين جاد بهم ذلك الجيل الصادق وهذا البلد الذي أخرج نباته بإذن ربه، وامتداداً مباركاً لأولئك الأوائل السابقين من المجددين والمصلحين الذين عم نفعهم سائر الأمة في داخل هذه الجزيرة وخارجها، بدءاً - في القرون الثلاثة الماضية - بشيخ الإسلام المجدد محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - الذي انطلقت بشائر دعوته في منتصف القرن الثاني عشر، ثم من جاء بعده من الأئمة من أولاده وأحفاده وطلبتهم الذين استمروا في نشر دعوة التوحيد والعقيدة الصافية، وورثوا العلم لمن بعدهم ممن ساروا على محجتهم واقتفوا آثارهم، فكانوا في مجموعهم مدرسة سنية سلفية نقية منهجها القرآن وهديها السنة وما عليه السلف من نبذ المعتقدات الفاسدة والمحدثات المهلكة، فرحم الله ذلك الزمن وأهله، ورحم أولئك الأعلام الأوائل وهؤلاء الأواخر رحمة واسعة وغفر لنا ولهم ولشيخنا وتقبلنا وإياهم ووالدينا في عليين إنه القريب المجيب.
- ثرمداء