الأوضاع التي تمر بها إيران خلال هذه الفترة الراهنة هي إرهاصات حقيقية لتغيير كبير في الحياة والنظام داخل إيران، ولم يعد بمقدور النظام الديني السياسي القائم أن يدمدم على ما يدور من تغيير حقيقي يفرض سيطرته على مجريات الأحداث الحالية هناك.
وبناء الأحداث الحالية هو بناء ثورة جديدة أو على الأقل تشكلات إحداث تغييرات محورية في النظام السياسي والاجتماعي، فالانقسام الجاري بين المحافظين والإصلاحيين هو بناء تراكمي حدث على مر السنوات الماضية، ومنذ أكثر من ثلاثين عاما منذ اندلاع الثورة الخمينية عام 1979م، فهناك أصوات كانت مدفونة بحكم فرض الأمر الواقع، ولم تتمكن من الانفلات عبر بوابات السافاج أو الحرس الثوري اللذين أطبقا على الحياة بحكم القوة وفرض الواقع الجديد هناك.
والخلاف الدائر بين المحافظين أو المتشددين وبين الاصلاحيين فيما يبدو أنه خلاف ظاهري داخل نظام واحد، ولكنه في حقيقة الأمر خلاف يضع النظام أمام مفترق طرق، وتحولات نوعية ، وأهم شيء يضع النظام أمام خيارات محدودة أحلاهما مر. فالماكنة السياسية التي تفكر للنظام الايراني تعيش حالة من التوتر الكبير الذي يشبه الفوضى في اتخاذ القرار المناسب. والمشكلة الكبرى التي تعاني منها ايران حاليا تتجسد في عدم وجود إجماع على قيادة مرشد الثورة للنظام في ايران. فقد انسحبت أصوات كثيرة من تأييده الذي كان مطلقا قبل الانتخابات الأخيرة التي اطلقت رصاصة على النظام القائم. كما أن أصواتا عديدة عبرت وبغضب وعلنا عن استيائها من المرشد الأعلى للثورة وانحيازه إلى فئة على حساب فئة أخرى.. كما لأول مرة في تاريخ الثورة الايرانية تسقط إحدى الصحف الإيرانية لقب المرشد عند ذكره في أخبارها مما يعطي دلالة واضحة على أن مفهوم التأييد المطلق الذي كان يناله المرشد لم يعد مطلقا أبدا. كما أن بعض أعضاء مجلس الخبراء بدأوا يتحدثون عن ممارسة دورهم الدستوري في عزل المرشد الأعلى حيث يتيح لهم الدستور، ولكنه لم يحدث في بال أحد أن يبدأ التفكير في ممارسة هذه السلطة.. هذه الأمور وغيرها تشير بوضوح إلى أن الوضع في ايران لم يعد وضعا عاديا، بل إنه أصبح يشكل أزمة كبيرة تهدد النظام السياسي هناك.
الرئيس السابق رفسنجاني هو القوة الكبيرة التي يمكن أن تشكل مخرجا أو بداية مخرج من الأزمة الحالية، فهو يقف تقريبا في الوسط، رغم مواقفه المعلنة، ولكنه يميل بدون إعلان إلى الاصلاحيين، ويقف بدون تأكيدات قريبا من المحافظين. فموقعه الدستوري والتاريخي ربما يفرض عليه لعب مثل هذا الدور، ولكنه لاشك سيخرج لامحالة عن صمته خلال هذه الأزمة ليضيف اليها بعدا جديدا وربما ظهوره سيضيف مزيدا من التأجيج للشارع لإيراني.
ولاشك ان الشارع الإيراني هو الذي سيفرض دوره القوي على مجريات الأحداث الحالية، فكلما أتيحت الفرصة لنزول الناس إلى الشارع كان ذلك بمثابة فرض واقع جديد، وبناء مستجدات نوعية على الأحداث.. والنزول إلى الشارع عادة يواكبه حراك أمني متشدد، وصدامات عنيفة بين المتظاهرين وبين رجال الأمن الايراني تؤدي إلى مزيد من الاحتقان والتشنج بين طرفي النزاع. ويساند الشارع قوة إعلامية هائلة تتمثل في الاعلام الالكتروني.
وسبق أن كتبت عنها في مقال سابق فقد جندت القوى الإصلاحية سواء خلال الحملات الانتخابية لها أو بعد إعلان نتائجها واعتراضهم على هذه النتائج كافة الوسائل الإلكترونية الحديثة للتواصل مع الناخبين ومع عموم الجماهير الايرانية، وهذا هو ما يعرف بالإعلام الاجتماعي
social media مثل فيس بووك وتويتر وماي
سبيس وجميع أنواع المدونات السياسية.. وهذه الوسائل هي الثورة الجديدة في عالم اليوم.. وقد كانت هذه الوسائل أفضل الأدوات الجديدة التي تم توظيفها في خدمة الحملة الانتخابية السياسية في ايران، ثم تلت ذلك تنسيق ردود الفعل بين قادة التيار الاصلاحي واتباعهم، ولاسيما أن الإعلام الرسمي قد حجب وجهات نظرهم، وحاول التشويش على الرسائل التي كانوا يودون توصيلها لأتباعهم ومؤيديهم، وإلى كافة مواطني بلادهم، والى العالم أجمع..
أما الرئيس المنتخب أحمدي نجاد فهو في وضع لا يحسد عليه، فهو يعيش حالة صعبة من الحكم غير المتوقع، كما أنه سقط في أول قرارات له بتعيين زوج ابنته نائبا له، وعدم امتثاله للنقد الذي وجه له إلى أن ازداد الضغط عليه فقبل بالاستقالة حفظا لماء الوجه، لكن النقد لا يزال يلاحقه حتى عندما عينه مديرا لمكتب رئيس الجمهورية، وهكذا فبدأت شخصية نجادي مهتزة وقراراته غير مستقرة في بداية حكمه الجديد.
ما يحدث في إيران منذ إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية هناك هو إرهاصات حقيقية لإمكانية واقعية في تغيير في المشهد السياسي الإيراني.. وفي خضم تداعيات هذه الأحداث، وتعقيداتها، وتشابكها، فإن مسارها سيكون مدفوعا بما يفرضه الشارع الإيراني على منطق الأحداث الجارية.. وستلقي هذه الأحداث بظلالها على منطقة الخليج، ومنطقة الشرق الأوسط.. وأحرى بدول المنطقة أن تبدأ في دراسة عميقة للأوضاع الداخلية في إيران، وقراءة تداعياتها على سياسات المنطقة بشكل عام..
المشرف على كرسي صحيفة الجزيرة للصحافة الدولية أستاذ الإعلام بجامعة الملك سعود
alkarni@ksu.edu.sa