Al Jazirah NewsPaper Saturday  01/08/2009 G Issue 13456
السبت 10 شعبان 1430   العدد  13456
بين الكلمات
محاولة في فهم السلطة
عبدالعزيز السماري

 

يتفاوت مفهوم السلطة بين ثقافة وأخرى، ومن زمن إلى آخر، فالبعض يرى فيها صمام الأمان للمجتمع، والدائرة التي توحد مختلف القوى المتعددة تحت لوائها، بينما يرى فيها آخرون دلالة على الاستبداد والتفرد بالرأي، كما وصفها ملك فرنسا لويس الخامس عشر وقف في الثالث من آذار (مارس) 1716م أمام برلمان باريس قائلاً: (في شخصي وحده تجتمع السلطة، ولي وحدي تعود السلطة التشريعيّة دون منازع أو حسيب).

عرّفها أحد الفلاسفة على أنها المقدرة على الفعل والتدبير، لكن المثقفين يختلفون في الموقف منها، فبعضهم يجد في قدراتها اللا محدودة في الفعل والتدبير أداة للمفسدة واستغلال النفوذ، بينما يراها آخرون قدرا ضروريا لقيام الدول والحفاظ على أمنها، لكن الغالبية تتفق على ضرورة تحديد تغلبها المطلق على الآخرين، ويأتي ذلك ضمن تطوير منهجي لفصل السلطة إلى سلطات تتمتع بالاستقلال.. وهو مفهوم غربي تم تطويره بعد ثورة الحداثة الغربية ضد الإقطاع المسيحي، ومع ذلك لم يؤدِ التحديث إلى تغييب السلطة تماماً عن مسرح الأحداث، لكن قام بتنظيم وتقنين آلية عملها في المجتمع.

يمكن الوصول إلى فهم مبسط لتقاليد السلطة البدائية على أنها تلك التي تسعى للحكم بدون قانون مكتوب، وتتدخل في حياة الناس ومصالحهم كيفما شاءت أي أنها تترك الحبل على الغارب قصداً، وذلك لئلا تضعف سلطاتها، ويجعلها قادرة على إبراز مخالبها إذا مس آخر مصالحها، أو نافسها في تغلبها، وأيضا لكي تصدر العقوبات الصارمة حسب الفاعل، وليس حسب الجريمة، فثقافة القانون أو التعليمات المسبقة مغيبة تماماً في المجتمعات التي تحكمها سلطة بدائية......

هذا على وجه التحديد هو الخيط الرفيع الذي يفصل بين قانون السلطة وسلطة القانون في المجتمع، فالإدارة التي تنشر قوانينها وتعاليمها علانية تمثل أحد وجوه السلطة القانونية في وجهها الحضاري، بينما تلك التي لا تقدم تعليمات ولا تسن قوانين يبين فيها الممنوع أو المسموح به، وتترك حرية التدخل لمصالحها وأهوائها حسب مشيئتها، تمثل الصورة البدائية للسلطة التقليدية..، وهو ما يفتح الباب أمام القوى الأخرى البدائية أيضا في البحث عن موقع لها في مجتمع الفوضى السلطوية، والإنسان بطبعه يبحث عن الاستئثار والعمل لمزيد من الثروة والأمن الذاتي، وهي غرائز لا حدود لها في الطبائع البشرية، وتؤدي غالباً إلى الكارثة عندما تصطدم بمصالح الآخرين، وهو ما يقود إلى دخول العلاقات الاجتماعية إلى حلقات صراع القوى، وفي ظل غياب القانون يأخذ الصراع أشكالاً أخرى، وقد يؤدي إلى فتن وقلاقل لا تحمد عقباها..

عادة ما يتحكم عاملان مؤثران في سلوك السلطة المنفرد: الطمع والأمن، وهما يمثلان غرائز طبيعية عند الإنسان لكنهما يبرزان في كامل طبيعتهما الطاغية في الكيان المتفرد بالسلطة اللا محدودة، والسلطة غالباً ما تتهذب مع مرور الزمن، فالطبيعة والإرث الحضاري والدين عوامل قد تحد من عنفوانها، وقد يؤدي إلى تحويلها إلى حركة إيجابية في المجتمع، كما عبر عنه جان وليام لابيار (.. السلطة هي الوظيفة الاجتماعيّة التي تقوم على سنّ القوانين، وحفظها، وتطبيقها، ومعاقبة من يخالفها، وهي التي تعمل على تغييرها وتطويرها كلّما دعت الحاجة: إنّها الوظيفة التي لا غنى عنها لوجود الجماعة ذاته، لاستمرارها، ولمتابعة نشاطها. من هنا بالذات، إنّها تلك الوظيفة القائمة على اتّخاذ المقررات التي يتوقّف عليها تحقيق الأهداف التي تتابعها الجماعة)..

كذلك قد يؤدي اتساع دائرة وتعدد السلطات في المجتمع إلى الانقلاب على السلطة الأم، أو قبول مبدأ دفع التطور إلى مرحلة أكثر تنظيماً لعلاقات القوى في المجتمع ولضمان استمرار المصالح المشتركة، فقد أدى ظهور الطبقات البرجوازية والرأسمالية إلى انحسار رقعة الإقطاع في الغرب، ودخول مرحلة جديدة من أهم معالمها الاقتصاد والعلم والصناعة،.. لكن الوضع في العالم الإسلامي يختلف، فالدول كانت ولا زالت تحكمها الدورة العصبية التي تتميز بالقدرة المتصاعدة على بسط النفوذ ثم انحسارها التدريجي، وليس من خلال الإقطاع الذي كان يحكم بالمال والأراضي الزراعية المنتجة في الغرب قبل الثورة الصناعية..، لكن المعضلة الأكثر تأثيراً في الشرق هي في تغييب المثقفين المؤثرين في عملية تنظيم السلطة وتطورها المستمر المتوازي مع تطور المجتمع.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد