Al Jazirah NewsPaper Saturday  01/08/2009 G Issue 13456
السبت 10 شعبان 1430   العدد  13456
المسافات في حياتنا.. من وضعها؟
د. فوزية البكر

 

أعتذر عن عدم صراحتي المباشرة على غرار المتكلمين السابقين، لكنني مع ذلك لدي ما أقوله، ذهبت اليوم إلى محطة قطار وعلمت أن المسافة الفاصلة بين خطي السكة الحديدية هي بشكل ثابت 143.5 سنتيمتر أو 4 أقدام و8.5 إنش. ما هذا القياس السخيف؟ سألت حبيبتي أن تتحقق من ذلك وهذا ما اكتشفته: عندما صنعت أولى القاطرات، استخدمت الأدوات نفسها التي صنعت بها عربات الخيل!! ولم تلك

المسافة بين عجلات القاطرات؟ لأنها المسافة التي حددت الطرقات القديمة التي كانت...

تعبرها القاطرات عند السفر. ومن الذي قرر أن تكون الطرقات بهذا العرض؟ فجأة.. توغل في الماضي البعيد.. أنهم الرومان.. أعظم مشيدي الطرقات. هم من قرروا أن تكون طرقاتهم بهذا العرض. ولماذا؟ لأن عربات القتال لديهم كان يجرها حصانان ولدي اصطفافهما يشغلان مساحة 143.5 سنتيمتراً!

فالمساحة الفاصلة بين خطي السكة التي رأيتها اليوم والتي تجري عليها قطاراتنا السريعة قد حددها الرومان إذاً، عندما ذهب الناس للولايات المتحدة، أخذوا يبنون السكك الحديدية لم يخطر لهم تبديل عرضها وبقيت كما هي حتى أن ذلك أثر في صناعة المركبات الفضائية، فقد اعتقد المهندسون الأمريكيون أن من اللازم أن تكون صهاريج الوقود أوسع لكن الصهاريج صنعت في ولاية يوتاه وتوجب نقلها بالقطار إلى مركز الفضاء في فلوريدا ولم تكن الأنفاق تتسع لأكثر من ذلك، لذا ما كان عليهم إلا التسليم بالقياس الذي قرر الرومان أنه القياس المثالي...

من رواية (الزهير) لباولو كويلو ص149

مقطع آخر من نفس الرواية ص264 (اجتزنا نهر السين، وفجأة استوقفنا واحد من تلك الأشرطة اللاصقة التي تستخدم لتطويق بقعة قيد البناء، منعت الشرطة الناس من المشي على طول الرصيف مجبرة إياهم على التنحي عن الطريق ثم العودة إلى الرصيف بعد خمسة أمتار. قال أحد الوافدين: عجباً! أن الشريط لا يزال هنا. سألته عمن وضعه؟ أجاب: الشريط هنا لأننا أنا وجماعتي من وضعه. كما تري ما من ورشة ترميم مطلقاً. هذا مجرد شريط سخيف برتقالي وأبيض يسد الطريق لكن لا أحد يسأل ماذا يجري هنا. الناس ينتحون عن الرصيف. يمشون على طول الطريق مجازفين بخطر السقوط أرضاً ثم النهوض دون أن يسألوا من وضع الشريط ولماذا وهل الأعمال الموجودة فعلاً تستحق وضع الشريط!!

ما الذي يود المؤلف أن يقوله لنا؟

إننا أسرى لما نولد عليه دون أن نمنح أنفسنا أو تمنحنا مؤسسات التنشئة الاجتماعية الفرصة أو الطريقة للتفكير فيما يحدث لنا ودرجة فعاليته ومنطقيته. تتحكم العادة أو العرف أو التقليد السائد فيما نفعل وننشأ على أنه أحد المظاهر الثابتة للحياة وأن أي محاولة للتغيير فيها قد تهدد البناء الأمن الذي أنخنا نياق حياتنا في ظلاله دون أن نسأل عن درجة الفاعلية للشريط الممدود أو المسافة الفاصلة بين أمرين ولماذا قررت ومن الذي قررها وما هي الظروف الثقافية والاجتماعية والاقتصادية التي على أساسها تم وضع قوانين عامة أو اجتماعية أو ثقافية معينة تحدد وتتحكم في مسارات حياتنا وأساليب المعيشة والأنفاق والتزاوج والتواصل والخدمات العامة وطرق البناء والمعيشة الخ من المظاهر الاجتماعية المعقدة التي تتداخل في كل ظاهرة اجتماعية تنظم حياتنا.

المسألة التي نقع اسري لها هو حقيقة أننا حين نولد في ثقافة معينة تتلبسنا هذه الثقافة دون وعي منا حتى نشعر بأنها هي نهاية العالم في الرؤية والفعل والحكم وكما قال نيللر عالم الأنثربولوجيا في مؤلفه الشهير حول الأنثربولوجيا الثقافية إن الثقافة تخترقنا منذ ولادتنا لتكيفنا حسبما تري الثقافة بأنها مقبولة لذا فإن ثقافتنا هي الطريقة التي نأكل بها وننام بها وهي اللغة التي نتكلم بها والقيم والمعتقدات التي نتمسك بها وهي السلع والخدمات التي نشتريها والطريقة التي نشتري بها...بل هي الطريقة التي نستهلك بها هذه السلع المشتراة والطريقة التي نقابل بها أصدقاءنا أو الغرباء عنا والطريقة التي نتكلم بها مع أطفالنا كما هي الطريقة التي نستجيب بها لأطفالنا وهي وسائل النقل والترفيه والتواصل والتفاعل الاجتماعي والفردي الذي نستمتع به في مجتمع ما.

ولذلك نصبح اسري غير مقيدين يدويا ولكن عقليا واجتماعيا ومهنيا وثقافيا بكل ما يحيط بنا من ممارسات سواء كانت منطقية أو غير منطقية وإلا فمن يصدق أننا نقبل أن يقود سائق أجنبي بامرأة وأن يعيش هذا السائق في المنزل ويخالط الأسرة بشكل يومي ويتنازل له الأب وألأم طواعية عن كل واجباتهما تجاه المنزل والأطفال ويبدوا ذلك كله مألوفا ومنطقيا رغم لا منطقيته.. فقط لأن ذلك هو السائد.. هو تلك المسافة التي قررها شخص وزمن ما... هي تلك الأشرطة البرتقالية والبيضاء اللاصقة التي قام شخص أو جماعة ما يوما بإلصاقها في ممرات حياتنا وقبلناها كممارسة دون أن نفكر في جدواها وفعاليتها ودون أن نجرؤ على معارضتها. كيف كنا قبل أربعون سنة نرفض ذهاب المرأة إلى المدرسة وبدا ذلك منطقيا ومشجعا من قبل كل قوي الأشرطة اللاصقة المحيطة بحياتنا واليوم لا يجرأ أحد على القبول أو القول بذلك فما هي حال كل الممارسات السائدة اليوم والتي تخص معظم جوانب حياتنا وأبرزها وأكثرها صراعا وتصادما مع الواقع المتغير هو وضعية المرأة والطفل والمشاركة العامة للمواطن.. والتي تصرخ بالتناقضات التي لا تتعايش مع العصر أو أنها فعلا فقدت وظيفتها أو أنها لم تعد مجدية بمقاييس التقدم التكنولوجي والحضاري الذي وصلت إليه الحضارة الإنسانية.

ألم يحن الوقت أذن أن نقف ونقول انه ربما بدت بعض هذه الأشرطة التي تغلف حياتنا والتي وضعت بفعل زمن ما وظرف ما.. غليظة وغير منطقية وأننا يجب أن نقف جميعا ونفكر في جدواها وفي من وضعها ولماذا وضعها قبل أن نقبل شروط وجودها وأدارتها لحياتنا دون أن نملك إمامها سوي التأمل والاستسلام؟




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد