كان الفيلسوف والطبيب العربي العظيم (ابن رشد) الذي عاش في الفترة ما بين سنة 1126 وسنة 1198م من أهم علماء عصره وأكثرهم شغفا وتواضعا، لكنه كان بالمقابل أكثرهم تعرضا للظلم.
وبجانب التواضع والتقشف الذي عاش فيه والزهد في الحياة كان يقال عنه انه لم يترك القراءة والدرس والبحث من صباه حتى وفاته، إلا ليلة وفاة أبيه وليلة زواجه.
لكن حياته ومؤلفاته العبقرية لم تسلمه من اكبر محنة عاشها في حياته وهى محاكمته بمحكمة شهيرة بتهم باطلة حول الكفر وإفساد عقول الناس!
ولا يجد هذا الفيلسوف العظيم الذي اغنى الأندلس وكل بلاد العرب بكتبه القيمة وآراءه الجميلة إلا أن يقف ويدافع عن نفسه ويلقي على قضاته مرافعة سجلت في كثير من كتب التاريخ على أنها من أعظم المرافعات في التاريخ الإنساني.
وبعد مرافعة طويلة عن آرائه وقيمه وأفكاره يختتمها بقوله: (لا تخدعوا هذا الشعب الرائع، لا تهيجوه بالباطل انكم تعاملونه مثل الطفل. وأنا أطالبكم باحترامه، احترموا شعب قرطبة هذا، واحذروه، فإنه مثل السكين، ان لم تحسنوا استخدامه فإنه يقطع أيديكم).
لكن كل مرافعة (ابن رشد) ودفاعه عن أفكاره لم تنفع. ففي النهاية يصدر القضاة حكمهم المعد سلفا ويصدر قرار غريب وهو تجريده من كل مناصبه ومن كل رتبه، ومن كل ثروته، وإحراق كتبه ومؤلفاته، وان يخرج منفيا من مدينته (قرطبة)!
وتنتهي مأساة (ابن رشد) بعد صدور الحكم بمناجاة رائعة له يقول فيها: (وداعا يا أبنائي، يا أبناء لحمي، وأيضا أبناء نفسي، اعرف انه في يوم من الأيام ستنتهي حمى (الاتهام) هذه، ولن يستطيع أحد ان يقضي على عمل الغير، إذا كان هذا العمل له قيمة وله أهمية، وسوف تزول هذه (البلادة) وسوف يزول (الحزن) وسوف تستمرون من بعدى تتعلمون وتعلمون في مدينتي ومدينتكم (قرطبة)، إنني واثق من ذلك. فهذه مدينة هادئة، ولكنها لا تنسى، سوف يزول هذا الحقد، وسوف ينتهي هذا الميل إلى الحرب والعدوان بين الناس، سوف تزول أسباب الهدم والتدمير بالنسبة لمن يحبون السلام والعلم والحوار، لكنني لن أحيا، حتى أرى هذا، لن أرى قرطبة بعد ذلك فأنا منها منفي بالحكم الذي صدر ضدي، لن أرى نجومها الكثيرة السهاد، التي طالما كنت أراها وأرعاها، ولن أتنفس هواءها الذي عرفته ودرسته في عناية ودقة، ولن أعاصر ذات الأرضية التي استطعت ان أتنبأ بها قبل حدوثها. يا أسفا على قرطبة التي تنفي علماءها وأبناءها البررة، وتطفئ أنوار الذكاء فيها، وتشعل نيران أعدائها، وتغذي هذه النيران، يا أسفا على قرطبة التي تمجد الذين يستبدون بها. وأسفا عليك يا قرطبة، وأنت تهجرين أعظم المبادئ وارقاها وهو مبدأ احترام العقل. وداعا يا قرطبة إنني على عتبة الموت. ومع ذلك يبعدونني عنك، وأنا أحوج ما أكون إلى هوائك، انهم يطردون العصفور من فوق شجرة الزيتون، وداعا يا قرطبة، وداعا، سأسقي بدموعي أرضا أخرى، ويوارى جثماني في ارض غير أرضك، وداعا.. وداعا).
خالد البسام
albassamk@hotmail.com