الشحاذة مهنة من لا مهنة له، وهي مهنة عديمة الجدوى وغير محترمة، ومسافة بلا ميل، وطاحونة تدور في الهواء المعاكس، وهي مظهر اجتماعي كسيح، وممارسة بائسة، وتبديد للقدرات وللعقل، وهي عمل مثقوب غير نزيه، ونافذة لا تجلب الهواء النقي، وشبح لا يبصر ....
....النور، وأرض منخفضة تتيح الوقوع، وهي هياج وخبث طبع وعكرة مزاج وانكسار هيبة، وتمدداً للطمع، وغلقاً لموارد الحلم، ومفسدة للحكمة، وضعف باهظ، وخطوات مبعثرة دامية، وأخاديد يابسة، وعصف ريح، وقصيدة مكسورة، ورواية باهتة، ونشيداً مجنوناً، وأفكاراً ميتة، ونظريات سقيمة، وجانب مظلم، وإذلال ذات.
والشحاذون هم المتسولون الطفيليون الذين لا يعملون، وإذا ما عملوا لا يتقنون ولا ينتجون، والشحاذون لهم نزوات وتصرفات وأعمال ماكرة وأدبيات عفنة، يملكون التأويل والسرد بشكل فائق، يتحركون كشخوص بعشوائية فائقة التنظيم والقصد، أو كخيوط رواية خفية لا يلمحها إلا الضالعون في الفراسة والمهارة، فالشحاذة عندهم فن ممتع صامد، لهم قصائدهم الخاصة، ورواياتهم الخاصة، ولغتهم الخاصة، وطرقهم الملتوية الخاصة، وأسلوبهم الخاص، وكذبهم المتفرد، ورياؤهم الباطل، ونفاقهم الطويل، لا يشبهون أحداً ويشبهون بعضهم مثل طيور السمان في الهجرة وفي التجانس، لهم سواد غراب، وبشاعة بوم، ومكر ثعلب، ودناءة عقاب، وشكل عقرب، وزحف ثعبان، فهم يتنامون ويتشعبون بشكل سريع، يمشون في حقل ألغام لكنهم حذرون بشدة لأنهم يتوجسون الخوف ولديهم ريبة، يمرون بمنعطفات حالكة وخطرة، لديهم ثقافة الاسترزاق وفهمه ومنطقه، يتنافسون بشراسة، فتجدهم كالمحاربين القدماء يدافعون عن آخر القلاع، لديهم خيارات كثيرة ومتشعبة، يكثرون بتدرج ويتلاشون بتدرج، هم أصناف وأشكال وألوان وأطياف ووجوه وأجساد وهياكل متنوعة في الطول وفي القصر وفي النحافة والسمنة وفي كيفيه ارتداء الملابس، والتوشح بالبهتان، لهم انتماءاتهم وأفكارهم وخططهم ودسائسهم وإستراتيجياتهم الجهنمية، يختارون الدروب المنزوية والمزدحمة، لديهم فوضى عقلية وارتباك وبوصلة صدئة، لا يمكن التنبؤ بفشلهم ونجاحهم، لأن مغامراتهم بلا إشارات أو علامات ترشدهم، يبحرون في المجهول، لكنهم يبحثون عن أقصر الطرق وأغباها للكسب والتربح، يمشون في طرقات شائكة تاركين خلفهم آثاراً سرمدية بلا هوية ولا بصمة ولا أثر، يمرون بدهاليز لا أول لها ولا آخر، يقذفهم التيه والضياع والتشرد، لهم كهوف محاطة بالوجل والترقب.. سماؤهم معتمة وأرضهم غير معشبة، يقفون على الأبواب وفي الشوارع والأرصفة وعلى قارعة الطرق، يرمقون الناس بشهية مفتوحة، أسراباً هم كالجراد، لا تهتز أطرافهم أحياءً، دمهم مسفوح، وأخلاقهم مخدوشة، وشفاههم يابسة، وأسمالهم رثة، يمدون أيديهم بلا خجل، مكتظون بالسواد، ومبللون بالرماد وبالطين، لا يعبهون بالاستهجان والسخرية، هم في تيه معقد بعيداً عن الخلاص، ممثلون بارعون يبهرون الناس برسمهم لصور لا متناهية من حركات وتشكيلات تزخر بالألوان وتحمل بين ثناياها أكذوبة الرواية، لكن لا يمكن اكتشافها إلا من خلال الإحساس برهافة المسرحية وحركاتها التعبيرية، ينتقلون من أرض لأرض، ومن مدينة لمدينة، ومن قرية لقرية، ومن هجرة لهجرة، بحثاً عن وجوه ثرية جديدة يكملون معهم مشوار التسول والاسترزاق السحت، هم كائنات حية، لكنهم بلا عفة ولا عنفوان، ولا تسكنهم الرجفة ولا الرعشة، أرواحهم عارية بلا سقوف ولا قباب ولا خيوط ظل، ليس لهم غيم ولا منافئ ولا مطر ولا سنابل قمح ولا موسم حصاد، ينطلقون كمئات السلاحف بحثاً عن رمل مناسب للتخصيب والتفقيس، ويعيشون مثل نبات الفطر حول الأماكن الخربة، بقية البياض الموجود لديهم تلاشى، وتحول إلى ما يشبه السواد الحالك المعتم، لديهم طابع يغلب عليه الالتباس والغموض والارتباك، يملكون خصائص وصفات يتسمون بها من حيث الرواية والرؤية تميزهم عن بقيه الأجناس، ويتفردون بنصوص منفلتة عن قيود النزاهة، تلكم هي (الشحذة) وذلكم هم (الشحاذون) بيقين تام وبلا تعويم أو تهويل ولا بعثرة كلام مرهق.
ramadan.alanazi@aliaf.com