جعل الله عزَّ وجلَّ للإنسان محطات تغذية دائمة، ونقاط شحن نفسي وروحي مستمرة، وهي في ذات الوقت وقفات حساب مع النفس ومراجعة لمنهجية السير وطريقة العيش في ظل الحياة المادية واللهث وراء مغريات وبريق وسراب الدنيا، من هذه المحطات ما هو يومي (الصلوات الخمس) ومنها ما هو أسبوعي (صلاة الجمعة) والثالثة سنوية، أما الأخيرة فهي المحطة العمرية خاصة بعد الأربعين، ورمضان هو المحطة السنوية التي كان الصحابة رضوان الله عليهم يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم إياها وهم قادرون على التزود فيها بالعمل الصالح، ومنا من يجهد نفسه ستة أشهر، بل يزيد ليسبح خلاف الواجب شرعاً وعقلاً وفطرة، ولهذا الشهر روحانيته الخاصة وطبيعته المتميزة لمن أقبل عليه وهو يستشعر لكونه شهر القرآن والعبادة، شهر الصيام والقيام، شهر الذكر والدعاء، إنه بحق فرصة ثمينة لمن أراد أن يتزود للدار الحقيقية التي لابد أن نستقر فيها يوما ما، ومن المظاهر الرائعة في بلادنا المباركة ما تقوم به وزارة الشئون الإسلامية من جهود مكثفة تسبق هذا الشهر، وكذا جهود وزارة الثقافة والإعلام في نقل صلاتي التراويح والقيام وترجمة تفسير الآيات القرآنية باللغة الإنجليزية، ومما يحز في النفس تسابق القنوات الفضائية في تسويق برامجها السنوية ومسلسلاته الليلية في هذا الشهر الكريم، والمتابع لهذه القنوات يلحظ تكثيف الدعايات والإعلانات منذ بداية شهر شعبان، كلها تقول (انتظرونا في شهر رمضان...حصرياً على قناة...) حتى صار للشهر الفضيل نجوم وأبطال خارج بيوت العبادة وبعيداً عن الصلاة والقيام، وليس لهم صلة ظاهرة بالأعمال التطوعية والخيرية التي يتسابق عليها أهل البذل والعطاء في شهر الصدقة والصفاء فلقد كان عليه الصلاة والسلام أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان، ومع أن ما أكتبه لن يغير في كثير من القناعات لدى عامة الناس إلا أنني أعتقد أن من واجبنا جميعاً التركيزعلى غاية واضحة وهدف مشترك ألاوهي إعانة بعضنا بعضا للوصول إلى الاستفادة القصوى من ساعة هذه المحطة في العمل الصالح الذي يرفع درجة الإيمان عند كل منا لأن هناك قاعدة معروفة ومهمة ألا وهي أن الإيمان لا يثبت على حال فهو إما في زيادة أو نقصان وإذا كان المنحنى في رمضان سالبا وفي انحدار وهبوط فهو من باب أولى سيكون أسوأ حالاً في بقية شهور العام إلا ماندر وللأسباب عرضية واحتماليته مقارنة بالحال في رمضان، فالشياطين التي أقسمت أن تحتنكن بني الإنسان تُرّبط في هذا الشهر، وتبقى النفس ويبقى الهوى ويظل التحدي قائماً أمام كل منا حتى لحظة الموت، والعاقل من وظف ساعات عمره لما هو خير وأبقى، بقي أن أشير إلى أن مسئولية الآباء على أبنائهم مسئولية مضاعفة والرعاية لهم رعاية شاملة كما أن مسئولية ملاك القنوات الفضائية مسئولية دينية ومجتمعية في هذا الشهر خاصة، وللممثلين رسالة لابد ألا تغيب عن بالهم وهم يتسابقون في مضمار الفن والإبداع فهم مطالبون مثل غيرهم من أبناء المسلمين بالعمل من أجل صلاح المجتمع وسلامة أفراده، أما عن العلماء والدعاة فواجبهم في التجديد واتخاذ وسائل التبليغ المناسبة زمنا ومكانا أمر يتفق عليه الجميع خاصة في ظل التسابق الحميم من أجل استجلاب المشاهد والتأثير عليه، ولذا لا مكان اليوم إلا للأقوياء حتى في البرامج الدينية، أسأل الله أن يبلغنا هذا الشهر الفضيل وأن ييسر لنا فيه الصيام والقيام والصدقة والذكر والدعاء آمين، وإلى لقاء والسلام.