دائماً ما يعمل الإنسان جاهداً من أجل خلق حلول طارئة للأزمات التي تظهر بناءً على ما يفرزه الواقع من مشكلات، فعلى سبيل المثال هناك من يعمل من أجل حل أزمة المياه في المجتمع، لكن المسؤول لم يفكر فيما سيحدثه الحل من أزمات، ستحدث أزمة حقيقية بالتأكيد لو تم حل مشكلة أزمة المياه، والأزمة ستكون في كيفية تصريف ذلك العدد الهائل من (الوايتات) التي يملكها مواطنون وبعض المؤسسات التي أصبحت مع تقادم أزمة المياه متخصصة في نقل المياه وتملك أساطيل من الوايتات، والوايت بالمناسبة ليس لفظاً عربياً، إنما كان لون أول سيارة نقل للمياه في شركة أرامكو.
لم تستطع اللغة العربية الدارجة النجاح في استعمال لفظ عربي لناقلة المياه كما حدث على سبيل المثال مع الهاتف الجوال أو النقال، الذي أحدث قدوم تقنيته أزمة مع (البيجرات)، ومفردها بيجر، الذي يأتي ضمن عجز اللغة العربية الوسطية - إن صح التعبير - في تقديم لفظ عربي ليكون اسماً دارجاً للبيجر، وإلى الآن لا أعرف ماذا حدث للعدد الهائل من البياجر فقد اختفت تماماً، بعد أن حل محلها الهاتف الجوال، وربما ساعد صغر حجمها وقلة تكلفتها في التخلص منها بدون خسارة مادية، لكن شاحنات الوايت المكلفة مادياً والكبيرة وزناً سنجد صعوبة في التخلص منه لذا علينا ألا نسرع في حل أزمة المياه قبل التفكير جيداً في كيفية حل أزمة أساطيل وايتات المياه في المدن والقرى السعودية.
كذلك من الأفضل أن تظل أزمة قيادة المرأة السيارة مستمرة، التي كانت ولا تزال الحديث المفضل في المجتمع، ويمثل الموقف منها بمثابة الترمومتر الذي يقدم المقياس الموضوعي للوعي في المجتمع، كذلك هو الحال في الموقف من السينما، الذي أصبح ينافس قيادة المرأة السيارة في أحاديث المجتمع الجانبية، وتظهر فصول الطرافة في هذين الموضوعين الحيويين أن ما يقوم بمحلهما هو أسوأ وأشد خطورة، فالسائق الذي يقود بالمرأة في أسواق المدينة لوحدها هو بكل تأكيد أكثر حرمة لأن فيه خلوة غير شرعية..
كذلك هو الحال مع السينما، فالقنوات الفضائية تصل أفلامها إلى داخل المنازل، ويشاهدها الأطفال بدون رقيب، بينما في صالات السينما يتم التحكم في نوعية الأفلام التي يتم عرضها رسمياً.. لكن مع ذلك أتمنى أن يستمر منعهما لأن فيهما حياة لكثير من الأقلام وحوارات القنوات المستقلة وغير المستقلة.. وأيضاً لأن حل أزمة قيادة المرأة السيارة قد يفرز أزمة سواقين بمئات الآلاف وبدون عمل، هو أيضاً الوضع مع صالات السينما التي ستؤدي إلى أزمة إفلاس محلات الرسيفر التي تقدم الأفلام المشفرة وغير المشفرة.. ويعمل فيها آلاف البنغال في المدينة.
كذلك هو الحال في الموقف من توظيف السعوديين الذين لو تم إحلالهم محل العمالة الأجنبية في السوق ستحدث أزمة سينهار بسببها اقتصاد كثير من المؤسسات التي تعمل على استقدام وتشغيل ورواتب العمالة الأجنبية، وسنجد صعوبة غير عادية في تهجير الأجانب من الأراضي السعودية، على الرغم من أن الأرقام تتحدث عن رقم 250 ألف طالب سعودي سيتم قبولهم في الجامعات السعودية العشرين لهذا العام..
أيضاً يجب على الكتاب وأصحاب الأقلام الصحفية أن يدركوا جيداً أن عالم بدون أزمات سيكون عالم بلا كلمات، فالأزمات هي ملح الكتابة، وهي التي تحرض العقل على التفكير، وتزدان الجرائد اليومية بأخبارها وبالإثارة الصحفية وبالمقالات النقدية..
ويعتبر التفكير النقدي المنهج الأكثر استمراراً في مدارس الفلسفة الحديثة، فهو الذي يصنع دائماً من النظرية مشروعاً لا يمكن أن تكتمل صفوفه في مستقبل الأيام، وهو الروح التي بسببها تطول أعمار الدول وتزدهر حضاراتها، فمجتمع بلا نقد تعني ببساطة أن النظرية قد اكتملت وحان وقت تلاشيها.