أستقبلُ بين الحين والآخر سؤالاً لا أملّ التعاطي معه تعليقاً وتأويلاًَ، يتعلق بعنوان هذه الزاوية (الرئة الثالثة)، وسبب اختياري له نصاً ومعنىً.
**
* وأشير في هذا السياق إلى أن هذا القلم قد أبحر منذ انطلاقته في أوائل الستينيات ميلادياً من القرن الماضي إلى عدة موانئ صحفية (ببطاقات هوية) متباينة، حمل بعضها (أنفاس) المراهقة الفكرية المبكرة، مثل: (القلم الباكي) في صحيفة (القصيم) لأهجره بعد حين إلى عنوان آخر: (من وحي القلم) في صحيفة (أخبار الظهران) قبل احتجابها، ثم علقتُ جهدَ الكتابة مؤقتاً بعد رحيلي إلى أمريكا مبتعثاً، ولم أشأْ وقتئذٍ أن (أجاهرَ) عملياً بعشقي للغة العربية، فأفقد بذلك الودَّ الناشئَ بيني وبين (ضُرّتها) اللغةِ الإنجليزية، سلاحِ التحصيل العلمي لإنجازِ الغرضِ الذي أُوفِدتُ من أجله إلى أمريكا!
**
* ثم عدتُ إلى الوطن من أمريكا مطلع السبعينيات (ميلادي) من القرن الماضي ليسْتَيقظَ في خاطري من جديد عشْقي القديم للكتابة بلغتي الأم، وما هي إلاَّ أشهر حتى وجدتُ في مجلة (اليمامة) حضناً حانياً لاستضَافة قلمي أسبوعياً، في عهد رئيس تحريرها الصديق محمد الشدي، وعاد إليّ من جديد هاجسُ البحثِ عن عنوان لزاوية (اليمامة) فاخترت لها بادئ الأمر عنواناً لا يخلو من غموض أسميته (شموع في الظلام) لكنه لم يدم طويلاً، لأسباب تنوء بوصفها مساحةُ هذا المقال، فاصطفيتُ عنواناً آخر باسم (من بعيد)، ولم يكن أوفر حظاً من سابقه، ليحلَّ بديلاً عنه عنوان (غصن الزيتون) الذي اكتسب صيتاً زمناً طويلاً.
**
* وأذكرُ أنني دافعت عنه مرةً قائلاً إن اختياري (غصن زيتون) عنواناً لزاويتي يعني أنها لا تروم من طروحاتها سوى حب الوطن ورخائه بناءً وسلاماً، ولا شيءَ سوى ذلك، وقد استمر ارتباط (غصن زيتون) بمجلة (اليمامة) فترةً طويلةً قبل أن ينتقل ولفترة قصيرة إلى صحيفة (الجزيرة) في العهد الأول لرئيس تحريرها المبدع خالد المالك، ثم عادت الزاوية إلى حضنها الأول (اليمامة) في عهد رئيس تحريرها الصديق الأديب الدكتور فهد العرابي الحارثي، وبعد (هجرته) منها إلى مجالات أخرى من العمل، استمر ظهورها لفترة قصيرة في عهد خلفه الدكتور عبدالله الجحلان، قبل أن (يُسْرى) بها إلى (الجزيرة) لفترة قصيرة أيضاً وخلال هذه الفترة، تم استقطاب هذا القلم للكتابة أسبوعياً في صحيفة (عكاظ)، فكتبت لها مقالات عبر زاوية أسميتها (نكون أو لا نكون) لكن هذا الاستقطاب لم يدم طويلاً، فعدت إلى عشي القديم في (الجزيرة) بعد استئناف فارسها الأثير خالد المالك مشوار الإبداع الصحفي عبر سدة التحرير.
**
* عدتُ إلى (الجزيرة) من جديد لأكتب عموداً أسبوعياً أسميته (الرئة الثالثة)، وقد تساءل كثيرون منذئذٍ ويتساءلون الآن عن هذا العنوان، معنىً ومغزىً، فقلت كما أقول الآن.. إن الكتابة في تقديري المتواضع (متنفّس) إبداعي لمن استطاع إلى ذلك سبيلاً، بها (تتحرر) الأفكار والرؤى من قضبان الكتمان داخل أسوار النفس، فإذا أُخْرِجت للناس كانت إمّا (شفيعاً) لصاحبها، و(شاهداً) له بالخير، أو كانت (خصماً) له،
و(شاهداً) عليه بما سواه، ولذا، لا بدَّ لها من إبداع في الحرف وإبداع في (العرض)، بالقدر الذي يستنفر القارئ قلباً وعقلاً وإحساساً، حتى ولو لمْ يتّفقْ مع الكاتب في شيء أو أشياء مما كتب.
**
* أعني بذلك كلّه أن الكتابةَ الإبداعيةَ.. ضَربٌ من (التنفس) الجميل، تَستقبلُ من خلاله (رئتَا) العقل والقلب نَسَماتِ بقَائهما: القلب يطارحُ المشاعرَ الجميلةَ عشقاً، والعقل يُمارسُ (رياضة الفكر) تأملاً في شؤون الحياة والأحياء، والنتيجةُ المرجوّةُ عطاء جميل تخلده ذاكرة الزمن لمَنْ كان له من هذا أو ذاك نصيب!
**
* هذا باختصار معنى (الرئة الثالثة) ومنهجها، أسلوباً وغايةً!