تلقيت رسالة خاصة من صديق قديم، ما زلت أكن له كل التقدير والاحترام، يُبدي فيها مرئياته حول ما أكتب في هذه الزاوية. وللتوضيح - لا أكثر - سأخصص زاويتي اليوم للدفاع عن موقفي الذي ربما التبس على البعض.
الذي أريدك أن تتنبه إليه - أخي الفاضل - أنني أكتب - ويعلم الله - من منطلق وطني بحت. وهذا ما يجعلني أقف أحياناً بحدة، وربما بشراسة، ضد (التطرف)، وضد من (يوظفون) الدين في خدمة طموحاتهم الفئوية أو الشخصية، أو لتمرير جشعهم المالي. فأنا مؤمن إيماناً لا يخالطه شك أن (جرحنا) الذي لا يكاد يندمل حتى ينزف ثانية، والدم الذي لا يكاد يجف هنا حتى يُراق هناك - أعني الإرهاب - سببه وباعثه ومُشعل جذوة حرائقه هو ثقافة التكفير والتعصب والتزمت، إضافة إلى (أفق ضيق) لا يقبل الاختلاف؛ حتى وإن كان في الفروع الفقهية التي هي في الغالب محل اختلاف. المتشددون لا يقرؤون، وإذا قرؤوا يبحثون عن المناكفة والمغالطة وتلمس أسباب الهروب من مواجهة الرأي الآخر؛ وأنا على يقين بأن أفضل دواء للتشدد هو القراءة خارج إطار الأيديولوجيا التي يتبناها المؤدلج؛ إضافة إلى تشجيع المتطرفين على (الحوار) طالما أنهم يتفقون معنا على أن الحكمة ضالة المؤمن يبحث عنها في مظانها أياً كانت هذه المظان؛ وأنا على يقين بأنهم لو قرؤوا بحيادية لقضي الأمر. وهذه - بالمناسبة - مشكلة الإنسان (المؤدلج)؛ فهو لا يبحث عن الحقيقة المجردة، وإنما يبحث عما يُدين به خصومه؛ والإنسان الذي هذا ديدنه لا بد أن يتحول النقاش معه إلى حالة أشبه ما تكون بحوار الطرشان؛ أقول ذلك عن تجربة.
ولو قرأت مثلاً للمنظّر الأكبر للحركيين المتأسلمين في العصر الحديث (سيد قطب) لوجدت أن هذا الفكر الذي يتم تداوله فيما يُسمى بالمنتديات الإسلامية في الإنترنت يدور ويتمحور حول كتابات هذا الحركي، وتحديداً كتابيه: (في ظلال القرآن) و(معالم في الطريق). واختلافنا مع حركة الإخوان، ومع سيد قطب على وجه الخصوص، ينطلق من مقولة غاية في البساطة، ولكنها (كارثية) في التأثير على المجتمعات الإسلامية، هذه المقولة مؤداها أنهم - أي حركة الإخوان - يتعاملون و(يتحركون) انطلاقاً من أن (السياسة وليس العقيدة أولاً)؛ بينما أن هذه البلاد قامت وتجذّرت واستمرت على أساس أن (العقيدة وليس السياسة أولاً)؛ والفرق بين المقولتين شاسع وكبير.
وأنا أكتب منذ تسع سنوات بشكل منتظم في جريدة الجزيرة؛ ودونك ما كتبت، عُد إليه في أرشيف الجزيرة، لن تجد فيه أيّ تجاوزات تمس العقيدة إطلاقاً؛ أما في الفروع فأنا أحرص كل الحرص على (تأصيل) ما أطرح.. نعم؛ هناك بعض الآراء الفقهية التي أتبناها وأدافع عنها قد لا تروق للبعض، لكنها بالنسبة لي نابعة عن قناعة أولاً، وثانياً يكون مصدرها دائماً (فقيهاً) من فقهاء أهل السنة المعتبرين وليست من (عندياتي) كما يقولون؛ ومع ذلك لن أستحي إطلاقاً أن أعود عنها متى ما توصلت إلى أن هناك رأياً آخر أقرب إلى الصواب.
وقبل الختام أقول: يجب أن تكون مُطمئناً إلى أمرين: أولهما أنني أعلم يقيناً أن ما أكتبه اليوم سيحاسبني الله عليه غداً، والله عليمٌ بالنوايا. الأمر الثاني أنني لا أقيم وزناً للشتم والسّب والتجريح؛ وقد حاول البعض معي هذا الأسلوب البائس وباؤوا - ولله الحمد والمنة - بالفشل؛ بل قد أجد لهم عذراً في هذا السلوك؛ فمن يلجأ إلى الشتم والتجريح يُعبّر دون أن يشعر عما أحدثه الرأي الآخر في أعماقه من اهتزاز، فلم يجد إلا (السّب) مخرجاً له من مأزقه؛ إنما أقيم كل الوزن والتقدير و الاحترام لمن يناقش الفكرة ويفككها ويتعامل معها كطرح آخر مختلف حتى وإن رفضها في النتيجة.
هذا ما أردت إيضاحه وأرجو أن أكون قد وُفّقت. إلى اللقاء.