تصر صحف العالم على تصدير أولى صفحاتها بأخبار الجرائم والغرائب التي تحدث في البلد، ويجد ذلك سوقاً رائجة بين العامة من القرّاء، ونحن لسنا بعيدين عن ذلك .. كل يوم نصحو على أصوات الجرائم التي لم نعتدها في مجتمعات تميّزت بالصمت واستجلاب السمت درءاً للفضائح الاجتماعية ....
اليوم لم يَعُد ذلك ممكناً نحن جزء من هذا العالم الإلكتروني الصاخب وأخبار ما يحدث لعالمنا الذي نظن أنه محدود ومستور تملأ الدنيا، فهل كانت هذه الحوادث غير موجودة فعلاً؟؟
بالطبع لا .. فهي كانت وستظل معنا دائماً .. ما اختلف هو في تعريفنا لمعناها والقيم المرتبطة بها وفي إمكانية نشرها في اللحظة التي تحدث فيها بفعل ثورة التكنولوجيا .. إساءة الأهل للأطفال وعقابهم وضربهم حتى الإعاقة أو الموت في بعض الحالات المتطرفة .. الإساءة اللفظية والجنسية والجسدية لهم وللمرأة كانت دائماً هناك .. الذي تغيّر هو رؤيتنا لها وتعريفنا لها وما يمكن أن نفعله كمجتمع للحد منها قصة الأب الذي أقدم على قتل أطفاله الثلاثة بمدينة الطائف .. توقظ الارتياع في أي قارئ ليسأل ما الذي حدث لنا فعلاً؟؟ هل توحّشنا إلى هذه الدرجة بحيث يقدم أب في لحظة غضب تمر بالجميع إلى قتل أطفاله الثلاثة بدم بارد ودفعة واحدة؟
لا أظن فالإشارات إلى وحشية مستترة كانت هناك دائماً، ولكننا فشلنا كمجتمع في حماية هؤلاء الأطفال منها بسبب نظام خدمات اجتماعي كسيح يعتقد بأنّ المرأة والأطفال ملك للولي حتى الموت، وهذا النظام مبني على فرضية مريضة هي وليدة ثقافة ذكورية متجذّرة، وهي أنّ كل ولي هو الأقدر طالما كان الرجل، رغم أننا وكما شهدنا من هذه القصة وغيرها من القصص المتوحشة التي بدأ المجتمع يسمح بتداولها في الصحافة العامة، والتي تصرخ بلا تردد بأن ليس كل رجل يستحق شرف هذه الولاية، فما هي هذه الإشارات وماذا يجب علينا أن نعمل تجاهها؟؟
بحسب ما تردّد في الصحف ومن الأحاديث التي أدلت بها هذه المرأة المكلومة، بأنها منذ البداية عانت من العنف المنزلي، وبسبب هذا العنف اضطرت لترك منزلها وفي كل مرة يتدخّل الطيبون والأهل لجمع شتات الأسرة دون أن يكون هناك أية مساعدة مبرمجة من قِبل أجهزة متخصصة في معالجة قضايا العنف على المرأة أو معالجة وتعليم أساليب التواصل بين الزوجين، عبر مؤسسات متخصصة في الإرشاد الزواجي، وهكذا ظلّت هذه الأسرة بأطرافها المريضة تتخبّط بين عنف الزوج وضعف قدرة المرأة الشخصية والمادية على اتخاذ قرارات أكثر استقلالية، لينتهي الأمر بمقتل كافة أطفال الأسرة في لحظة غضب نفاجأ بها جميعاً، ونبدأ في تحرير قصائد الرثاء والحزن التي بلا شك تخترق قلوب الملايين ممن قرأوا أو سمعوا عن القصة، لكننا لا نفعل شيئاً مبرمجاً كمجتمع لنحمي أمثالهم من الضعفاء غير القادرين على حماية أنفسهم، والذين ربما يخضعون لنفس الظروف دون أن ندري عنهم.
الطلاق في حد ذاته وترك المرأة لمنزلها أو طردها منه وحرمانها من أطفالها هو في حد ذاته خبرة مدمّرة للعائلة بكاملها، وقد أكدت كافة الدراسات على آثاره التي تستمر لسنوات مع الأطفال، كما أنها تؤثر على رؤيتهم للزواج ككل ولطرق رعايتهم لأطفالهم مستقبلاً، بل لوحظ أنّ معظم الأسر التي تمر بتجربة الطلاق تمر في الغالب بأزمات اقتصادية أو ينحدر هذا المستوى، سواء بطرق الرعاية أو الإنفاق على الأطفال، مما يؤثر على نوعية الحياة المادية التي تحيط بهم، إضافة إلى الفوضى العارمة التي تحل بحياتهم من جراء التخبط في اتخاذ القرارات اليومية الخاصة بهم من جرّاء غياب الأم عن المنزل.
العنف هو أيضاً أحد الأنماط السلوكية المدمّرة للأسرة وحتى لو لم يتعرض الأطفال له بشكل مباشر، إلاّ أنّ الآثار السيكولوجية والعقلية التي يمرون بها تبقى معهم أبد الدهر..
من هنا يأتي الدور الاجتماعي الغائب .. ففي كل المجتمعات الحديثة توجد القوانين ونظم الحماية والمتابعة الرسمية التي تلتقط الإشارات من داخل الأسرة لمساعدتها على تجاوز صعوباتها او لحماية أطرافها. نظم الخدمات الاجتماعية المتوفرة في البلدان المختلفة، تجعل قدرة الأسرة على طلب المساعدة الإرشادية الزواجية أو القانونية ممكنة من خلال خدمات إرشادية وزواجية وقانونية، ضمن وزارات العمل والخدمات الاجتماعية التي تنظر للأسرة كأحد أهم مؤسسات المجتمع وصلاح أفرادها ونموهم في مناخات أسرية مطمئنة، يضمن في المستقبل تخريج مواطنين سعداء متوازنين ومنتجين.
الخدمات الاجتماعية في معظم بلدان العالم تمتلك الحق القانوني والرسمي لمتابعة الأسرة وتقديم الإرشاد لها وللأم، وبذا فأول إشارات العنف الموجّه للأم مثلاً قد يشير إلى إمكانية تعرض الأطفال أيضاً مما يعني تدخلاً سريعا لحمايتهم. تخيلوا ماذا كان حال هؤلاء الأطفال الثلاثة وهم دون السادسة وقد تركوا دون رعاية يتخبطون في المنزل وحدهم، دون أن يدري أحد عنهم مع أب مريض قرر في النهاية أن ينهي حياتهم ويسلِّم نفسه.
لو توفرت الخدمات والرعاية الاجتماعية الرسمية ضمن أجهزة الدولة، لأمكن لها الدخول للمنزل ودراسة حال الأسرة حال ترك الأم لها، ولأمكن توفير رعاية إرشادية للزوج المريض تساعده على التغلُّب على صعوباته الشخصية وتحمي الآخرين من أزماته النفسية والعقلية.
غياب نظام الخدمات الاجتماعية الخاصة بالأسرة العادية، هو المسئول الأول عن مقتل هؤلاء الصغار، بحيث لا يجب أن تقف الخدمات والرعاية الاجتماعية على الأسر المحتاجة مادياً كما هو الحال اليوم، بل يجب أن تضم نظاماً متكاملاً من الرعاية الاجتماعية والأمومية والزواجية التي تتابع الأسرة والأطفال.
.. نحن جميعاً أمام مسئولية اجتماعية عظمي تتعلّق بسلامة اللبنة الأساسية للبناء الاجتماعي للمجتمع وهي الأسرة، وهذه القصة المرعبة يجب أن توقظنا جميعاً على حقيقة إننا نفتقد نظم الخدمات الاجتماعية التي تساعد الأسرة على أداء وظائفها التي هي الأساس في بناء المجتمع .. الغريب أنّ حياتنا تبنى على مجموعة من الفرضيات الخاطئة، فنحن نفترض أنّ الكل معد للزواج وبذا فمن النادر أن نوفر خدمات ما قبل الزواج للذكور أو الإناث، مما قد يفسر نسب الطلاق المترفعة .. نحن أيضاً نفترض أنّ الأسرة وفي كل أحوالها، وبغض النظر عن أهلية وصلاحية أطرافها، هي من يمتلك الحق المطلق في الرعاية دون أن يسمح قانونياً بتدخل الأطراف الحكومية، وهو ما يجعل اليد الرسمية قاصرة عن التدخل لحماية الأطراف الأكثر ضعفاً وهم الأطفال والمرأة إلاّ حين يقع المحظور.
نظم الخدمات الاجتماعية متوفر على مستوى العالم، ويمكن اقتباس ما نحتاج وما نستطيع عمله ضمن حدود إمكاناتنا المادية والفنية .. بريطانيا على سبيل المثال تتمتع بنظام خدمات رعاية اجتماعية يتابع الأم والطفل منذ لحظة الحمل ليوفر خدمات إرشادية وزواجية وقانونية تدفع الدولة ثمنها، لأنها تثمّن أهمية الصحة النفسية والاستقرار الأسري لبناء عائلات مستقرة ومنتجة في المستقبل، وهو الأمر نفسه بالنسبة لكافة الدول الأوروبية والولايات المتحدة والكثير من الدول الأقل نمواً مثل بعض دول أمريكا اللاتينية.
نحن الآن لم نَعُد مجتمعاً قبلياً صغيراً قادراً على التدخل المباشر وحل مشكلات الأفراد ضمن الشبكة العائلية .. اليوم نحن بنى اجتماعية حضارية تحتاج إلى أنظمة وقوانين موازية في التعقيد ترعى احتياجاتنا المتغيرة والمتجددة، وهي مسئولية النظام الحكومي أولاً وأخيراً، ولا يمكن للجهود الخيرية أو المنظمات التطوعية أن تغطي احتياجات خمسة وعشرين مليوناً من البشر.