في البدء يجب علينا أن نعترف بأن الأطفال والشباب الجانحين والمعرضين للانحراف أعدادهم في تزايد، وأن نسبهم كبيرة، وأنهم يعيشون بيننا مثلنا يأكلون ويشربون ويتنفسون وينامون، ويتحركون كما نتحرك، ويلبسون كما نلبس، وينتعلون من الأحذية كما ننتعل، لكنهم يتميزون عنا بأنهم يشبهون القنابل الموقوتة القابلة للانفجار....
.... في أي وقت وفي أي حين، وأنهم يحملون لقب الانحراف بتميز، ويمتهنون أعمالاً جنائية بتفرد وإن اختلفت ألوانهم وأشكالهم وأعمارهم ولهجاتهم. إن الأطفال والشباب الجانحين جُلّ قضاياهم تتمحور أغلبها في السرقة وفي المخدرات، ويتم استغلالهم من قِبل المجرمين الكبار دون وعي منهم ودون إدراك لمدى الخطورة الآنية والمستقبلية. إن ظاهرة جنوح الأطفال والشباب ظاهرة قديمة معروفة، لكنها تتجدد حسب العوامل والظروف البيئية والمكتسبة. إن التفكك الأسري يعد أحد العوامل والمسبباب الرئيسية القوية والخطيرة التي تدفع بهؤلاء إلى منحدرات الجريمة بكل أنواعها وأشكالها، إضافة إلى عدم المتابعة والمراقبة من قِبل الأهل؛ فنجد هؤلاء الأطفال والشباب المراهقين يقضون جُلّ وقتهم في الشارع وخارج المنزل، يعيشون التيه والضياع والتسكع والحرمان العاطفي والعوامل الإنسانية الأخرى، ويقتاتون أبجدية الجريمة والانحراف. إنه يجب علينا أن ننظر إلى الأمر بجدية متناهية من أجل إنقاذ هؤلاء من واقعهم المرير المؤلم، وإن على كافة الأطراف والمؤسسات المعنية أن تضع برنامجاً إنسانياً ووطنياً من أجل احتواء هذه الظاهرة بعد الاعتراف بها بشفافية مطلقة وبصدق مفعم بالإخلاص؛ حتى لا يتفاقم الأمر وتكبر المسألة. إن ترك هؤلاء الجانحين يهيمون على وجوههم وحدهم دون مراعاة ودون اهتمام، وتركهم يكتسبون العادات والطقوس الحياتية من الشارع وعلى الأرصفة وفي المخيمات والاستراحات، سيولّد لديهم إحساساً بالكراهية الشديدة، وسيصبح لديهم حالات اكتئاب حادة، ولا يتوانون عن إيذاء أنفسهم وإيذاء مجتمعهم، وسيتمادون أكثر في الولوغ في الجريمة الكبرى من حيث تعاطي المخدرات والاستنشاق والشم وتعلُّم مهارت السرقة والسطو المسلح، وسيتم استغلالهم من قبل المجرمين الكبار في أعمال منافية للدين وللأخلاق وللإنسانية وللأعراف والتقاليد الحميدة. إن هؤلاء الجانحين يجب علينا ألا نجعلهم مثل مثلث خشبي يقف على رأس واحد ودون قاعدة على أرضية تشكّل معه زاوية حادة، بل يجب علينا توفير كافة الجهود لمنعهم أو لحدّهم على الأقل من السقطة والوقوع في هاوية سوداء. إنني أهيب بكل قوى العلم والفكر والفن والأدب أن يسعوا بمثابرة صابرة لإنقاذ هؤلاء من براثن الأعمال الخطرة والقاتلة، وأن نحتويهم ونبين لهم كيفية العودة للإنسانية الحرة. إننا لو تركنا هؤلاء وحدهم دون معالجة حتما ستكبر مساوئهم وآلامهم وكوارثهم بخط بياني واضح، يعكس بشكل مفجع حقيقة مصيرهم وواقعهم. إن الجدارة تتجلى في شجاعة كافة الأطراف والأطياف والمؤسسات والجهات في الاعتراف بجريمة الجنوح الكبير لهؤلاء، والإقرار أولا بأنها ظاهرة بدأت تطفو على السطح بقوة كالمارد العملاق. يجب وقوفنا صفا واحدا ضد كل الظروف والمعطيات التي تشكّل شخصيات هؤلاء والتأثير عليهم وتشويههم، ويجب أن يتم معالجتها بكل المضامين التي لا تنشر العبث والإحساس باللاجدوى والقرف والاشمئزاز، بل يجب أن يعمل بها بحنو وإيمان وصدق وصبر وتجرد دون تعقيد. إن جنوح الأطفال والشباب فيه أكثر من مأساة، وفيه أكثر من عذاب، وفيه أكثر من حزن، وفيه أكثر من شكل وأكثر من أسلوب.. وبعيدا عن التنطع الأجوف والنمنمة والتزويق، وقريبا من الكلمات الموحية والمؤنسة التي تخاطب العقل والقلب والمنطق وبنية صادقة وود وتفاؤل، أقول: إن الوقت وقتنا، والعمل عملنا، ونحن رواده وبناته والمسؤولون عنه في الدنيا وفي الآخرة؛ فبوسعنا أن نلعب دورا جديا ومؤثرا هائلا في الحد من هذه الظاهرة السيئة بعيدا عن التهرب الجبان والشائن، وبعيدا عن تغميض العيون ودس الرؤوس تحت الأغطية، بل يتوجب علينا الالتحام بحرارة وبشجاعة؛ وذلك حتى تكون مجهوداتنا حلقة في مجموعة الجهود البشرية الأخرى، وفي ذلك الطريق الوحيد الذي نحافظ فيه على أجيالنا ووقايتهم من الانحراف المشين ونقلهم إلى عالم أكثر رحابة وأكثر إنسانية وأكثر وقارا واحتراما، وأن نجعلهم في مصاف الحكماء والفلاسفة ورجال العلم والعبقرية، بدلاً من السقوط في عالم الجريمة والولوغ في أخلاقياتها الفاسدة وفق مسارات لها أرهاصات محتقنة ومتورمة، التي تدعو إلى التقيؤ والاستفراغ. إن وقفة شجاعة مع هذا الواقع المعاش تدعونا فعلا إلى البدء في الحركة والانطلاق نحو إيجاد حياة حلوة جميلة لهؤلاء الجانحين، تسودها القيم والمباديء والأخلاق والمفاهيم، وانتزاعهم من نزواتهم وأهوائهم وعقولهم النائمة وأحلامهم السرمدية المغرقة في المرض وفي الظلام.
ramadan.alanazi@aliaf.com