العناصر المكونة للحكمة تتمثَّل في ذلك البعد الرباعي: الذكاء الحاد, والمعرفة الثرة, والتجربة العميقة, والعزيمة النافذة, فالذكاء الألمعي، والمد المعرفي المتدفق, والعزيمة المصممة, والتجربة الرحبة هي أركان الحكمة التي تتمدد عمقاً كلما امتدت هذه العناصر وكانت أقرب إلى مناهزة الكمال..
.. طبعاً الحكمة نسبية فكما أن الحكيم قد يتصرف بحمق أحياناً, فإن الأحمق قد تكون الحكمة أحياناً هي اللون الذي يصطبغ به أحد مواقفه.. لا يتأتى للمرء أن يكون حكيماً بمجرد ذكائه فقط إذ من الثابت علمياً أن الذكاء المجرد الذي لا ينبعث من أرضية معرفية صلبة ليس له كبير أثر ملموس؛ بل قد يكون الطابع الشكلي هو الذي يسم مخرجاته في العمق.. الذكاء بدون معرفة يجعل صاحبه كما جهاز الكمبيوتر الذي لم يزوّد بالبرامج، فهو فاقد للمادة التي يشتغل عليها.. ومن هنا فليس ثمة جدوى لوجوده.. عمق البصيرة المعرفية أيضاً إذا لم يتواكب معه الذكاء فإنه يحد من كفاءة العقل ويحجّم من خياله ويجعله أسيراً لما يتكدس لديه من حمولة معلوماتية ليس بمقدوره فلترة عناصرها أو المساهمة في تفعيلها ومنحها لوناً من الإضافة التي توسّع آفاق تحركها.. المعرفة دون ذكاء تجعل التركيبة العقلية عاجزة عن القبض على خيوط الحقيقة، بل قد تكون المعرفة لعدم توظيفها على نحو صحيح عبئاً إضافياً يخل بالتوازن الذاتي العام. أيضا الذكاء المتوقد والأفق المعرفي المتناهي الشمولية لا يتيح للمرء الالتحاق بالصفوف الأمامية للحكماء ما لم يكن ثمة تجارب تتولد عنها خبرات تضاعف في مدى البصيرة.. هذه التجارب قد تكون ذاتية أو غيرية فهو يستفيد حتى من تجارب سواه فيمتح من تفاصيلها ما يتيح له ضبط إيقاع سلوكه والتقدم صوب آفاق الانفتاح؛ إلى جانب ذلك كله تأتي العزيمة المضاءة لتجسد لوازم الأركان الثلاثة الذكاء والمعرفة والخبرة.. فعن سبيل العزيمة يجري التدشين لتموضع النظريات وتحويلها إلى خطوط حركة يومية وتجسيد تفاصيلها على أرض الواقع.
إن الذكاء موهبة فطرية يولد المرء محمّلاً بقابلياتها والبُعد الوراثي له دور في ذلك لا ينكر.. أما تضاعف نمو الكينونة المعرفية فهو أمر كسبي يُتاح للفرد الظفر به من خلال تكثيف بواعث التثقف وتوطينها في حياته الذاتية وجعلها جزءاً من برنامج حياته اليومية، وبالتالي تكون أحد المكونات الجوهرية في منهجه الكلي.. هناك من يتصور أن ارتقاء الإنسان في معارج المعرفة وتزايد حجم حظه منها دليل جلي على اتصافه بالحكمة.. والحقيقة أن هذا التصور ليس دقيقاً لأن المعرفة ليست سوى أحد عناصر الحكمة ومن ثم فإن ثمة بوناً بين الحكيم والعالِم، فقد يبلغ الفرد سدرة منتهى حقل مّا من حقول العلم، لكنه لا يعتبر حكيماً.. العالِم يُشرِّح المعرفة ويفكك أدواتها من أجل هضمها ووعي مفرداتها فيباشر تنظيم معالمها ومن ثم يقوم بتوزيعها على حقول متعددة, أما الحكيم: فهو يقوم بدور تركيبي يجري فيه تركيباً مزجياً مكوناً من بُعدين: المعرفة النظرية مع الخبرة العملية يتم دمجهما ومن ثم توليد أبنية مفاهيمية عامة توخياً لبلورة رؤية شمولية تتناغم فيها معطيات الزمن بأبعاده الثلاثة.. العالِم بفعل ما يتوفر عليه من إمكانات تسنى له صناعة وسائل الحضارة المعاصرة.. لكن الحكيم هو الذي يعي تماماً كيف يوظف هاتيك الوسائل ومتى وكيف؟.. إن عقولنا لا تعي الحقائق بشكل مباشر وإنما عبر وسيط معرفي يتمثل في مفاهيم عقلية ومعارف ثقافية وخبرات حياتية.. هذا الوسيط المعرفي تنعكس إفرازاته على آلية تعاطينا مع الأشياء, والحكيم يتمتع بوسائط معرفية عالية الجودة تكسبه قدرة على التقدير الموضوعي للأشياء فيعاينها على حقيقتها الماهية ولا تحجبه الستائر المسدلة عن النفاذ إلى قلب الوضعية المتموقعة, بفعل ذلك الوسيط المعرفي بات لديه رؤية ممتدة تخترق حجب الزمن، ففي الحين الذي يتعامل فيه الناس من حوله مع المستقبل بسطحية متكاملة وتفكيرهم لا يتجاوز الاستغراق في إطار اللحظة الحاضرة, فإن الحكيم يهتك أستار اللاحق الزمني فيستشرفه ويرسم سيناريوهاته ويستشعر ما ينطوي عليه في طياته من معطيات, الناس لا يرون الفتن والأزمات إلا بعد وقوعها, بينما الحكيم يشم رياحها منذ أن تأخذ إرهاصاتها بالتشكُّل. الملمح العام للإنسان الحكيم يتمثل في ذلك التوازن بين العقل والعاطفة مع القدرة على فل القيود الذهنية والاحتفاظ بنهايات مفتوحة في تعاطيه مع الأحداث والظواهر والأشياء.. لديه من الملكات الإدراكية ما يتيح له سبر الأغوار ومعاينة الأفق المسدودة وملامسة الأبعاد الضيقة التي ليس بمقدور الكثيرين الوقوف على كنهها الحقيقي.
Abdalla_2015@hotmail.com