مما لا يختلف عليه اثنان أن الإنسان العاقل قبل أن يتفوه بالكلمة يحسب لها حسابها، ويحاول جاهداً أن يضعها في موضعها، محترماً معناها ومغزاها، فلا يتكلم بكلام مبتذل، ولا ينزل إلى مستوى لا يتفق مع مقياس العقل.
|
وخير الكلام ما دل على المعنى وأشار إلى المغزى، بما يخدم هدف المتكلم والغرض الذي ينزع إليه.
|
واحترام الكلمة نابع من احترام النفس، وحسن المنطق عادة ما يدل على العقل، والعقل شاهد على الفضل وحارس من الجهل، ومغارس المعقول في النفوس كمغارس الأشجار، إذ إنه كلما طابت تربة الأرض للشجر كلما نما ثمرها، وإذا كرمت النفوس وانسحب كرمها على العقل كثر خيرها وقل شرها، والنفس المغمورة بالخير والكرم تسلم من الآفات والسقم، وقد قال لقمان الحكيم: إن من النفوس مزارع فازرع فيها الكلمة الطيبة فإن لم تنبت كلها ينبت بعضها.
|
والكلمة لها وقعها وتأثيرها عند بعضهم إلى درجة أنهم يخافون منها أشد من خوفهم من السلاح، ويعود ذلك إلى احترامهم لها وعظم شأنها عندهم واعتقادهم ان الاخفاق فيها قد يجعل منهم مضغة على الألسن وعرضة للتندر، وهذا الخوف مرده إلى ان هؤلاء يقدِّرون الكلمة حق قدرها، ويدركون أثرها وتأثيرها، وما يترتب على التعامل معها والدخول في مجاهلها من تكاليف، ويقابل أهلها من تحديات، وقد قيل: رب كلام أمضى من حسام والكلمة أشد وقعاً من السيف، وكما قال الشاعر:
|
من الناس من لفظه لؤلؤٌ |
يبادره اللقط إذ يلفظ |
وبعضهم قوله كالحصا |
يُقال فيُلغى ولا يحفظ |
والعاقل يحرص دائماً ألا يتكلم إلا بما يخدم حجته أو يقضي حاجته، وأن يقتصر كلامه على كل ما هو نافع ومأمون العاقبة، كما يجعل من قلمه أداة للإسهام في خدمة وطنه وحل مشكلات أمته ومعالجة قضاياها المصيرية محترماً ما يقول على النحو الذي يمكنه من اختيار ما حَسُن لفظه ومعناه، واستُدل بظاهره على مغزاه، بحيث يكون مما يستجاد، ويتحقق عن طريقه المعنى المراد، بهدف تلقيح الألباب والبحث عن الصواب بعيداً عن آفات المنطق وانزلاقات اللسان وقد قيل: عثرة القدم أسلم من عثرة اللسان، وقال آخر: خير لك أن تقذف حجرا بلا ترو من أن تقذف بكلمة بلا ترو، وما أصدق قول الشاعر:
|
رأيت لسان المرء راعي نفسه |
وعاذره إن ليم أو زل سائره |
فمن لزمته حجة من لسانه |
فقد مات راعيه وأفحم عاذره |
وإذا كان ما سبق ينطبق على أوجه الكلام بصورة عامة، فماذا عن الكاتب الذي يؤلف كتاباً أو يكتب مقالة على صفحات الجرائد؟ لا جرم ان هذا التساؤل توجد بعض الإجابة عليه في ما قاله أحد الحكماء، ومضمونه أن الإنسان لا يزال في فسحة من عقله ما لم يكتب مقالة أو يؤلف كتاباً أو ينظم شعراً عندئذ لا مندوحة أمامه من أن يستحضر قواه العقلية، ويسخر قدراته الذهنية، لأنه قلَّما نجا كاتب من راصد بمكيدة، أو باحث عن خطيئة، حيث إن من ألف كتاباً أو كتب مقالة فقد استشرف، وبالنقد استهدف، فإن أصاب فذلك ما أراد، ولا بد له من حساد، وإن أخطأ فقد استقذف وانبرى له النقاد ولله در القائل:
|
الشعر عقل المرء يعرضه |
والقول مثل مواقع النبل |
منها المقصر عن رميته |
ونوافذ يذهبن بالخصل |
وزيادة للتوضيح فإن من كتب نثراً أو نظم شعراً وعرضه أمام القراء فإنه قد عرض عقله من خلال ما كتب من النثر أو نظم من الشعر، وفي هذه الحالة فإنه لن يفلت من نقد ناقد واعتراض معاند ومقالة حاسد، وكل واحد من هؤلاء حتى لو لم يجد سبيلا إلى وهن، وسبباً إلى طعن فإنه سوف يحتال إلى ذلك بحسب ما ركب عليه طبعه، وانطوت عليه دخيلته، لكي يخلص إلى غفلة، أو يصل إلى زلة، فيتشبث بالمعنى الحقير، ويتسبب بالخطأ الصغير، حرصاً منه على ذكر المثالب وتغطية المناقب، إذ إن من طبع أهل المكايدة والحسد وأرباب المعاندة والنكد تغطية محاسن من حسدوه وإظهار مساوئ من عاندوه، بوصفهم من أعداء المروءة الذين إذا رأوا خيراً ستروه وإذا رأوا شراً أظهروه.
|
والكاتب المتمرس يعرف تمام المعرفة أن أول الأفكار غالباً ما يكون لها فتنة يروق لها المزاج، وجدة تثير الإعجاب، فإذا ما سكنت القريحة واستقر التأمل وصفت النفس، فإنه لا غنى لهذا الكاتب من أن يعيد النظر فيما كتب، وأن يكون فرحه بإحسانه مساوياً لغمه بإساءاته، تاركاً الرأي حتى يبلغ أناته ويصل نهايته لأنه لا خير في الرأي الفطير والأفكار التي لم تنضج بعد، أما تلك الأفكار الناضجة فإنه لا يكتمل نضجها ولا يتم الحصول عليها إلا بعد الغربلة والمفاضلة العقلية، وما يعنيه ذلك من تزاحم الأفكار وتواردها بالشكل الذي يتيح للكاتب فرصة الاختيار وقد قال ابن المقفع: إن الكلام يزدحم في صدري فيقف قلمي ليتخير.
|
وليس ثمة أحد أولى بالأناة والروية من كاتب يعرض عقله، وينشر فكره الأمر الذي يتطلب منه أن يقبل عفو القريحة ولا يستكرهها، وأن يصنف الألفاظ والمعاني والطريقة المثلى لحبكها وسبكها لكي يختار الكلام الأفضل والأسلوب الأمثل بطريقة تغلب فيها التلقائية وسلاسة الاختيار على التكلف والاستكراه، مع التركيز على الفكرة وما تهدف إليه، ومناقشة ذلك على نحو هادف وصيغة بناءة.
|
والكاتب الذي يحترم كلامه ويهتم بما يكتب فإنه لا غنى له عن الإحاطة بفكرته وتحديد هدفه، متوخياً الدقة المطلوبة عند ايراد الحقائق وطرح الأفكار دون أن تذهب به قناعاته إلى التسليم المطلق بصحة ما يقول أو يغالي في وجهات نظره الذاتية، ويجعل منها أحكاماً، بل يترك هامشاً للخطأ ومجالاً للنقاش مع توطين نفسه بأن الكثرة الكاثرة من القراء سوف يطلعون على طروحاته متفرغين لقراءتها ومنتقدين لها حيث يكشف بعضهم عن نقاط ضعفها تارة، ويتجنى عليه بعضهم الآخر تارة أخرى.
|
وحيال هؤلاء وأولئك فإن الكاتب الحصيف هو الذي يتقبل المداخلات، ويتحمل التجاوزات، محسناً الظن في هدف الطرف المقابل، ومتجاوباً معه نحو تحقيق هذا الهدف، نائياً بنفسه عن الطرح المتشنج والأسلوب التهكمي وما يقود إليه ذلك من التراشق بالاتهامات وتبطين الاساءات، وبالتالي تحويل النقاش عن غرضه الأصلي إلى مستنقع الأهداف الدونية ووحل المقاصد الشخصية.
|
ومن حق هذا الكاتب الذي عرض عقله وانهال عليه النقض من بعض أهله أن يفند ما يرى أنه قابل للتفنيد من هذا النقد مع الاعتراف بالصائب منه، وأن يحيل ما لا بد من إحالته إلى أهل الذكر وجهات الاختصاص، جاعلاً من النقاشات والمداخلات روضاً من الكلم مونقا ورونقاً من الحكم مشرقا.
|
ومن المؤسف أن معظم هذه النقاشات تدور في حلقة مفرغة وتبحث أحياناً في أمور هامشية ومواضيع ثانوية ضررها أكثر من نفعها، كما تنصب حينا آخر على مسائل اجتهادية وقضايا خلافية، يحاول بعضهم أن يتخذ منها سلماً ليدلف من خلاله إلى الدين، مسيئا إليه تارة، ومستتراً خلفه تارة ثانية، وجاعلاً منه ذريعة لمقاصد جانبية تارة ثالثة، وذلك عن طريق الزج ببعض هذه المسائل والقضايا في معمعة النقاش السفسطي، وتناولها بشيء من الإرجاف والإجحاف والتلاسن.
|
والرجل قد يُحكم عليه من رسالته ورسوله وهديته بوصف الرسالة يستدل منها على فصاحة منطقه وقوة عقله واتزان شخصيته وبعض صفاته الخلقية وقد قيل: المرء مخبوء تحت لسانه، واختيار الكلام من حيث ألفاظه ومعانيه والمنازع التي ينزع إليها ينضح من ورائها عقل المتكلم لأن الإنسان السوي يحدد بوضوح فكرته التي يتكلم فيها والمغزى الذي يهدف إليه من كلامه، معطياً كل مقام حقه ومؤدياً كل ما يجب عليه من سياسة الكلام بالصيغة التي يرضى عنها أصحاب الحقوق وأرباب الذوق، مع الأخذ في الحسبان الاهتمام بصقل الطبع وزيادة الدربة واختيار اللفظ وقلة الاستكراه، وقد قال الخليل بن أحمد: لا يحسن اختيار الكلام إلا من يعلم ما لا يحتاج إليه منه، كما قيل: اختيار الرجل قطعة من عقله، ودل على عاقل اختياره، وقال الشاعر:
|
والمرء في لسانه مخبوء |
منطقه يحسُن أو يسيء |
والكلمة بصورة عامة والمكتوبة منها بشكل خاص يتعين أن يزنها صاحبها بميزان العقل وأن يقيسها بمقاييسه، حتى لا يؤتى منها، ويصبح أسيراً لها، وبالتالي يفقد خياره عليها وتصير هي عليه بالخيار، وما قد يكتب من كتابات أو يجري من مقابلات لا تحترم هذا المفهوم لا تسوِّغ لعاقل أن يتجاهل هذه الحقيقة أو يغفل عنها عندما يمسك بالقلم أو يتوسل وسيلة تقوم مقامه، عارضاً عقله ومقدماً عليه شاهداً من فعله، وقد قال الشاعر:
|
فإن قلت فاعلم ما تقول فإنه |
إلى سامع ممن تعادي وناصر |
وإنك لا تسطيع رد مقالةٍ |
سارت وزلت في مسامع آخر |
كما ليس رام بعد إطلاق سهمه |
على ردِّه بعد الوقوع بقادر |
|