بعض الأبناء لم يعش قسوة الحياة ووطأتها الشديدة على الآباء، ولم يستوعب كل أو جل ما يُقال عنها من أخبار، تلك الحياة البائسة التي وضعت ميسمها على وجناتهم، على أيديهم، على بواطن أرجلهم، على مناكبهم، على أسمالهم البالية.
|
واحدٌ من أولئك الشباب (مطني)، عاش ميعة الصبا في هذا العصر، وراح يتندَّر، وهو يرى تلك الملامح البائسة، على أوجه المسافرين، في غدوهم ورواحهم، كان ذلك في منتصف القرن الرابع عشر الهجري وربما قبله بعقود، حين كانت (بيشة) مصدراً من أكبر مصادر العيش لأهلها، ولمن أَمّها.. وبطبيعة الحال لم يجد والد (مطني) أمامه سوى التجاوب مع (الابن) في هذين البيتين:
|
مستانسٍ (مطني) بلوم (الحشاحيش) |
ما جرّب الدنيا، ولا لبس خيشه |
ما ذاق لوعات (الغرب) و(المطاريش) |
ولا تحدّر يم (رنيه) وبيشه |
* الغرب جمع (غُربه)، والمطاريش جمع (طارش) وهم المسافرون، بحثاً عن لقمة العيش. في تلك السنوات كانت الهجرة من (نجد)، حين لفظت من عليها. هربوا من حرّها وقرّها، وندرة مياهها، وجدب مراعيها، على حين كانت (بيشة)، على صعوبة مسالكها، وقلة فرص العيش فيها، أحسن حالاً، وأطيب مقاماً من غيرها، هذا إذا أضفنا لأهلها حسن المعشر، وكرم الضيافة، ولطافة أهلها مع الوافدين عليهم.
|
* بعد سنوات ليست بالكثيرة، استتب الأمن، واستقرت البلاد، من شمالها لجنوبها، ومن شرقها لغربها تحت راية التوحيد، وبقيادة (الموحّد) حدثت النقلة الكبيرة، والطفرة الاقتصادية والعمرانية الهائلة، بعد ثلاثة عقود من ذلك التاريخ، انبرى (سلمان بن عبدالعزيز) لهذه المنطقة، فأصبحت (نجد) بمفازاتها ومجاهلها محط الأنظار، ومقصد التجّار، ومصدراً من مصادر الاسترزاق كغيرها من مدن ومحافظات (المملكة العربية السعودية)، التي كان لبعضها - بحكم الموقع الجغرافي - قصب السبق، في النهضة والتطور، والتقدم والازدهار.. أما (نجد)، فقد عانى أهلها - بحكم الموقع - الشيء الكثير، لكن أمام عزائم الرجال تتحطم الصخور، وينال الإنسان ما استعصى على غيره. أمام الحب الخالد، وقوة الانتماء لقراها ومدنها، وأوديتها وصحاريها جعلت ساكنيها يستعذبون الألم، ويروّحون عن أنفسهم المكدودة بهذه الأبيات لمحمد السديري:
|
اعشق ليالي (نجد) لو أنها ادماس |
وايامها عندي جنانٍ سعيده |
* بعيداً عن العواطف، هذه التغيُّرات والتحولات الكبيرة إحدى معجزات الإنسان السعودي الجبّار التي يحق له أن يفتخر بإنجازها، في وقت قياسي، وإحدى أمارات المواطنة الصادقة المخلصة التي يعتزّ بها أبناء هذا البلد في أحلك الظروف التي مرّوا بها.
|
* من غير انتقاص، أو تقليل من شأن أولئك (الحشاحيش)، وهم في الأغلب من يمتهنون جلب (الأعلاف) من البراري، أو من المزارع، فهم النواة الأولى التي خلقت أفراداً يُعدون على رؤوس الأصابع، كان لهم بصمات في مسيرة التنمية، حتى أصبحت (الرياض) عاصمة المملكة العربية السعودية، ومركز (نجد) الثقافي، والحضاري، والاقتصادي تحتل مراكز متقدمة أمام نظيراتها من العواصم العربية والعالمية. نعم للتاريخ رجالٌ يرسمون منعطفاته القوية، كم كنت أتمنى، ولو بحصر (خمسة) من أولئك الكبار، على مدار خمسة عقود أسهموا بالفعل في بناء النهضة الحضارية والثقافية في الرياض. أ - هـ.
|
|