مارأيتُني مستقبلاً خبراً أفزعُ معه إلى تكذيبه فزعي إلى ذلك يوم الاثنين المنصرم حينما صدع الناعي بنبأ وفاة الشيخ الحبر عبدالله ابن جبرين، في نهارٍ مظلمٍ عزفت ألحانه ألوع موجعاتِ هذا الزمان بفقد أهل النور في ليل المدلهمات البهيم.
يذهب ابن جبرين فتنفطرُ لوعةً لفقده القلوب وتنبجس حزناً عليه العيون، وما زالت أدمعي مستهلات مذ ذاك المساء قائماً وقاعداً، مصطليًا بحرِّ أنفاسي مما أجده لفقده فقدَ الوالد الرؤوم، فبروحي روحه الطاهرة التي ما فتئت تحلق نقيةً تظلل من كان حوله من طلابه طيلة كل تلك السنين.
كان الشيخ علمًا للتفاني والنصح لهذه الأمة، في حياة علمية مديدة ملؤها العطاء والجود. وقد كان - رحمه الله - في رحلة يومية مستمرة طوافًا بين مجالس التعليم ومصالح المسلمين من شروق الشمس إلى انتصاف الليل، في كفاح تكل دونه الأبدان وتنهض له همة مثله ممن باع نفسه لله.
كان الشيخ وسيبقى علمًا للإخلاص وهضم النفس في نموذج فريد لا تذكر له مثالاً حين تسمعه وهو يتحدث مثنيًا ومشيدًا بإسهاب وإطناب على غيره من أهل العلم ممن هم في منزلة تلاميذه. أما حين تراه وهو يتنازع مع أحد مستقبليه من الدعاة ممن هم أصغر منه بسنين أيهم يقبل رأس الآخر فإنك تحار في إدراك كنه هذا التجرد المتناهي الذي لا يكاد يبلغه أحد.
كان الشيخ مدرسة في الفقه الراسخ، وكأنما أشربت روحُه روحَ الشريعة في فتاويه وتيسيره
كان الشيخ وكان وكان، والآن... الآن يذهبُ وتختفي بسمته التي يحار من رآها في سرها ووصف ما فيها من طهر الفؤاد. الآن يذهب الشيخ في صمت، في دنيا ملأها ضجيجًا عُبَّادُها الملوثون.
كلهم يمشي رويد كلهم يطلب صيد
إلا ابن جبرين... وربما غيره، ممن قد يشبهه، ممن لم يرهم أو يسمع بهم أحد.
أواه أيها الشيخ... وأواه من هذه الدنياحين يغيب عنها صوتك ورسيمك.