Al Jazirah NewsPaper Monday  20/07/2009 G Issue 13444
الأثنين 27 رجب 1430   العدد  13444
استرعى انتباهي
أيديولوجية الإعلام العربي وحرفته.. قلق المصداقية
د.عبدالله بن ناصر الحمود

 

تميزت الأيام القليلة الماضية ببعض المواد الإخبارية والوثائقية التي تناولتها وسائل إعلام عربية بشكل يمكن أن يوجد تحولاً تاريخياً خطيراً في مستقبل القضية الفلسطينية. فبعد مناورات الأشقاء على كل أرض عربية دون تقدم ملحوظ في تحقيق الوفاق المأمول بين فرقاء الشعب الواحد، بدا واضحاً، جرأة وسائل إعلام معينة في التصدي والمواجهة للفريق الفتحاوي وبث مواد في غاية الخطورة تمس قمة الهرم، وذلك رغم كل التبعات المتوقعة، ...

... والتي كان أقلها إغلاق مكتب إحدى القنوات في منطقة الصراع. ومن جانب آخر تمت ملاحظة إحجام وسائل أخرى عن الخوض في ذات الأمور، مع الأهمية الإعلامية الكبرى لها. وأظن أن المتابعين للأحداث، من الرسميين ومن الإعلاميين المهنيين، أو من النخب المتعددة قد استحضروا إشكالية (مصداقية وسائل الإعلام) عندما تتعارض مصالح كل من المهنة والحرفة مع الأيديولوجيا أياً كانت تلك الأيديولوجيا، وعندما يتعارض ذلك كله مع المصالح المباشرة للمؤسسة الرسمية. ورغم عِظم البلاء المترتب على مصداقية ما تناولته تلك الوسائل الجريئة، تبرز تساؤلات تواجه المصداقية ذاتها، وتحاكمها، من باب (هل كل ما يعرف يقال؟)، أو بمعنى آخر إلى أي حد تكون مصداقية الوسائل أمراً مقبولاً؟ وما الفاصل بين ضرورة التروي والتأكد من جانب والمبادرة والسبق الإعلامي من جانب آخر، ثم إلى أي مدى يمكن الاكتفاء بصحة أو دقة معلومة ما حتى ولو كانت جزءاً من كلِّ معلوماتي ربما لم تتضح جل أبعاده؟، بل كيف يتم تدريس قيم الممارسة الإعلامية في الجامعات، والمعاهد المتخصصة؟ وكيف تتم مزاولتها في الوسائل ذاتها؟

ورغم كل ما لدي من تجارب ومعارف متواضعة سابقة، شعرت هذا الأسبوع برغبة في استقراء الخلفيات العلمية لموضوع مصداقية وسائل الإعلام، للوقوف على حقيقة (المصداقية) كقارب نجاة للوسائل عندما تثير القلق، لكنها تفعل ذلك بمصداقية عالية. بدأت بمراجعة مظان المعلومات والبيانات المتوافرة حول المصداقية. ورأيت أن أبدأ بمصدرين رئيسين للبحث عن الجديد. فكانت زيارتي لعدد من المكتبات الخاصة التي تتوافر عادة في ركن صغير لعدد من الإصدارات العلمية من الكتب العربية الأصيلة أو المترجمة في مجال الإعلام. وحيث يمكنني الإقرار بوجود تحسُّن طفيف على المستوى الكمي في إصدار الكتب من حيث ارتفاع أعدادها نسبياً، إلا أن تلك المظان العلمية يشوبها منقصتان كبيرتان: الأولى: الاستناد الكبير إلى كثير من أدبيات التجارب الأخرى غير العربية دون مراعاة لخصائص مهمة ثقافية واجتماعية في المنطقة، ودون الاستناد إلى أسس تنظيرية بيئية خاصة تجعل من هذه المرجعيات ذات قيمة في فهم ونقد وتقويم الواقع الإعلامي العربي. الثانية: النزعة الأيديولوجية التي اكتسحت كثيراً من تلك الإصدارات بالقدر الذي يشعر القارئ معه بكثير من الترقب والتخوف من العملية الإعلامية لدى فئة ليست قليلة من المعنيين بالإصدارات العلمية في مجال الإعلام، أكثر من دعم معظم هذه الإصدارات للمعرفة العلمية المتخصصة الدقيقة. ويستثنى من ذلك -بالتأكيد- نماذج ليست كثيرة عنيت بالتأليف في مجالات متخصصة مهمة.

وكنتيجة طبيعية لهاتين المنقصتين بدت نماذج أخرى من الإصدارات الإعلامية مكتظة بالكم المعلوماتي غير المنظم والتي يبدو أن غايات إنتاجها أقرب للبعد التجاري بمختلف مستوياته منه لدعم الحرفة الإعلامية، والمهنة النبيلة، والسلطة الرابعة في المجتمع الإنساني الحديث.

من هنا جمعت شتات معارفي، وما استطعت أن ألملمه من هذه المصادر، ثم اتجهت إلى مصدر آخر للتعرف على خلفيات الموضوع. وكان خياري هنا شبكة الإنترنت. فعن طريق عدد من المواقع الإلكترونية المتخصصة، وقواعد المعلومات البحثية لمراكز البحوث حول العالم وللمجلات والدوريات العلمية المتخصصة وجدت خيارات كثيرة يمكنها - ولو بشيء من المقابل المادي- أن تحقق نهم الباحثين في مجال الإعلام للوصول إلى معلومات دقيقة، لكن ليس للوطن العربي -مع الأسف الشديد- نصيب كبير منها. حيث يمكن القول بوجود ما يقل عن 3% من المواقع العربية في مقابل المواقع الإنجليزية والفرنسية على وجه التحديد لأي تخصص أو مجال فرعي إعلامي.

وأخيراً كانت المحطة الثالثة (محركات البحث على الشبكة)، ومن هنا يستطيع المتصفح أن يحصل على كم هائل من المعلومات والمعارف حول كل شيء تم استخدام كلمة (إعلام) فيه، سواء كان ذلك علمياً رصيناً أم غير ذلك. وقد تبين أن المتاح من الكتب والإصدارات العلمية المتاحة اليوم في مجال الإعلام والاتصال ليس بإمكانها ملاحقة التطورات المتسارعة في بيئة الاتصال التي تعد من أكثر البيئات الحديثة تحركاً ومن أسرعها تغيراً، سيما في موضوعات وقيم ممارسة متنازع عليها ك(المصداقية) في وسائل الإعلام. ومن هنا، ظهر لب المشكلة في نقص حاد في المرجعيات العلمية التي يمكن أن نحكم إليها الظواهر الكبرى في بيئة الممارسة الإعلامية. وأظن أنه من هنا برز الأيديولوجي، في مقابل الحرفي والمهني المتقدم، في ممارسات الوسائل عندنا، وهو ما يفسر، من جانب، المبادرة السريعة من لدن قنوات ما للخوض في موضوعات خطيرة إعلامياً وثقافياً واجتماعياً بل وتاريخياً وحضارياً، وفي المقابل إحجام وسائل أخرى عن ذات المنهج والأسلوب. وأيقنت حينها، أن مشكلتنا مع مصداقية وسائل الإعلام في ازدياد مطرد، وأن جهودنا في العمل المهني داخل مؤسساتنا الإعلامية ستبقى رهن الاجتهادات التي تصيب أحياناً لكنها تخطئ أحياناً أخرى. والمشكل الأكبر هو عدم الحسم إن كانت المصداقية تعني أن ما نقوله صدقاً، أم أنها تعني أن ما يترتب على صدقنا محقق للمصالح الكلية لأوطاننا ومؤسساتنا، ثم هل من المصداقية المبادرة والسبق ولو بأطراف الأخبار والقضايا أم التريث والتأني، ولكن ما الفرق الذي سيكون، لو تريث الوسائل، بين بيروقراطية المؤسسة الرسمية والمؤسسة الإعلامية؟ ولكن أيضاً ما المصالح والمفاسد الكلية المترتبة على تحقيق السبق الإعلامي في قضايا تثير شهية (القضاء) لكنه لم يتناولها بعد؟. وبذلك، أيقنت أن الأمر في غاية التعقيد، وأن المصداقية التي ينادي بها نفر من أرباب المؤسسات الرسمية في الوطن العربي، ستبقى نذير شؤم عند مؤسسات رسمية أخرى، كما ستبقى المصداقية لدى وسائل الإعلام أن لا تقول كل شيء بالضرورة، ولكن أن يكون ما تقوله صادقاً، وهنا، دون شك، تتقدم الأيديولوجيا مرة أخرى على الحرفة والمهنة، والمضحك المبكي، في غاية الأمر، أن (الجمهور العام وبعض الخاص) عادة ما تفوته كثير من هذه الحقائق.



alhumoodmail@yahoo.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد