السلطة القضائية إحدى أهم سلطات الدولة، وهدفها الأساسي هو تحقيق أكبر قدر ممكن من العدالة في المجتمع، ومن هنا أُطلق على أنظمتها - الموضوعية منها والإجرائية - مسمى الأنظمة العدلية، وبناء على ذلك فالمعيار الرئيسي للمفاضلة والمقارنة بين أنظمة السلطة القضائية يعود إلى مدى تحقيق هذا النظام أو ذاك لمبدأ العدالة.
وأهمية السلطة القضائية من بين سلطات الدولة الأخرى يجعلنا نقول: إن التطوير والتحديث فيها على المستوى التشريعي والإداري التنظيمي ذو أهمية إستراتيجية بالغة، ويشير إلى مدى جدية الدولة في مسيرتها الإصلاحية.....
.....وعلى المستوى المحلي تشهد المملكة مؤخراً حراكاً تطويرياً متسارعاً في سلطتها القضائية اتضحت معالمه بشكل بارز خلال السنتين الماضيتين، واستهل بإصدار نظام جديد للقضاء العام (المدني) والإداري (ديوان المظالم) وآلية تنفيذية للنظامين، وما بين فترة وأخرى تطالعنا وسائل الإعلام بأخبار سارة عن خطوات جادة وأحياناً قفزات جريئة تتطلع وتسعى لمزيد من التطوير والتحديث في أداء السلطة القضائية، وذلك يستدعي من المهتمين جهوداً تدعم وتعزز هذا الاتجاه التطويري في أجهزة القضاء.
وأبرز تلك الخطوات التطويرية على الإطلاق هو صدور النظام الجديد الذي هيأ بيئة مناسبة تقبل التطوير والتحديث، ومما لفت انتباهي وسيكون موضوع حديثي في هذه الورقة هو الضمانات التي أتى بها النظام لتسهم في تحقيق مزيد من العدالة في عملية التقاضي، وقد تفرد بها النظام الجديد عن التنظيم القضائي السابق، ومن تلك الضمانات ما يلي:
1- منح النظام الجديد في مادته (11) المحكمة العليا اختصاصين رئيسيين؛ الأول: المراقبة القضائية على الأحكام الصادرة في قضايا القتل والرجم والقطع والقصاص فيما دون النفس، وهو الدور الذي كان يقوم به مجلس القضاء الأعلى سابقاً، والثاني: المراقبة القضائية للقرارات والأحكام الصادرة من محاكم الاستئناف في مختلف مناطق المملكة، وذلك في حالات معينة وعند حدوث عيوب موضوعية أو شكلية محددة، وهذا الدور الأخير يعد إضافةً نوعيةً مهمةً في عملية التقاضي، تُسهم في التقليل إلى حدٍ كبيرٍ من حالات الأخطاء التقديرية ونحوها التي قد يقع فيها القاضي سهواً ومن غير قصد، ويمنح المحكوم عليه فرصة للاستدراك والطعن في قرار أو حكم محكمة الاستئناف.
والمحكمة العليا تتغيا من خلال ذلك تنظيم عملية الاعتراض والطعن في قرارات وأحكام محاكم الاستئناف، ولا شك أن فتح المجال للمتقاضين للطعن في أحكام محاكم الاستئناف القابلة للطعن، وعدم اعتبارها أحكاما نهائية قطعية حتى بعد استئنافها ضمانٌ لحفظ الحقوق وتحقيق مزيد من العدالة.
2- عمل النظام الجديد على تفعيل العمل بمبدأ التقاضي على درجتين بشكل أفضل من الوضع فيما سبق، وذلك من خلال تقريره لمحاكم الاستئناف بطريقة عمل جديدة، ففي ظل التنظيم القضائي السابق كانت فرصة الاعتراض على الحكم الصادر من المحكمة العامة أو الجزئية والطعن فيه تتم من خلال محكمتي التمييز بالرياض ومكة فقط، بينما نجد أن النظام الجديد قد أعطى المحكوم عليهم فرصا أكبر للاعتراض على الأحكام الصادرة من محاكم الدرجة الأولى، وسهل عليهم ذلك، فقد نص النظام في مادته (15) على إنشاء محكمة استئناف أو أكثر في كل منطقة، وجواز فتح دائرة استئناف متخصصة أو أكثر في المحافظات عند الاحتياج لذلك.
ومن ناحية طريقة النظر والمراجعة للحكم الأوََّلي، فقد كان الأصل في السابق حسب المادة (183) من نظام المرافعات الشرعية أن تنظر محكمة التمييز للاعتراض ومدى وجاهته وتراجع الحكم الأوَّلي من خلال ملف القضية دون حضور الخصوم إلا إذا نص النظام أو تطلب الأمر ذلك، ولا تحكم محكمة التمييز في القضية المنظورة بحكم جديد، بل يقتصر دورها على مراجعة الحكم الأوَّلي والتصديق عليه إن توافق منطوقه مع القواعد الشرعية والنظامية أو إبداء الملاحظات وإرجاعه لقاضي القضية لإعادة النظر فيه، أو تحويله إلى قاض آخر في حالة أصر القاضي الأول على الحكم، ولا تحكم محكمة التمييز في القضية بنفسها إلا في حالات معينة على خلاف القاعدة العامة حسب ما ينص عليه نظام المرافعات في مادتيه (187- 188) ونظام الإجراءات الجزائية في مادته (205).
بينما في ظل النظام الجديد فإن محاكم الاستئناف وحسب المادة (17) من نظام القضاء العام تعيد نظر القضية من جديد، بحضور الخصوم، وبعد سماع أقوالهم، من خلال إحدى الدوائر المتخصصة بمحاكم الاستئناف التي تتكون من ثلاثة قضاة في غير قضايا القصاص في النفس وما دونها والتي تُنظر قضاياها من خمسة قضاة، وفرق كبير بين إبداء الملاحظات من واقع ملف القضية ودون حضور الخصوم ومن ثم إعادة القضية لنفس القاضي لتعديل حكمه الأول، وبين إعادة نظرها من جديد من خلال ثلاثة قضاة على الأقل وليس قاضيا واحدا، وهؤلاء القضاة الثلاثة أو الخمسة أكثر خبرة وتجربة من قاضي الدرجة الأولى، ويصدر حكمهم بعد حضور الخصوم وسماع أقوالهم.
ولاشك أن وجود محاكم الاستئناف، وقيامها بعملها بهذه الطريقة، وتفعيلها لمبدأ التقاضي على درجتين يعدُ ضمانةً أخرى من ضمانات العدالة لكافة أطراف الخصومة.
3- اعتمد نظام القضاء الجديد في تقسيمه لمحاكم الدرجة الأولى على معيار الاختصاص النوعي، وهو بذلك أخذ بفكرة المحاكم المتخصصة في القضاء العام، وقد قسم النظام المحاكم إلى خمسة؛ محاكم عامة ومحاكم جزائية ومحاكم أحوال شخصية ومحاكم عمالية ومحاكم تجارية، وأجاز للمجلس الأعلى للقضاء إحداث محاكم متخصصة أخرى بعد موافقة الملك وفق ما نصت عليه المادة (9) من نظام القضاء العام، وأخذُ المنظم السعودي بمبدأ الاختصاص النوعي في تقسيمه لمحاكم الدرجة الأولى يستلزم ضرورة الأخذ بمبدأ القاضي المتخصص، وإلا فلا جدوى من تطبيق فكرة المحاكم المتخصصة دون أن يكون قضاتها أنفسهم متخصصون، والتخصص في القضاء عموماً سواء على مستوى المحاكم أو القضاة بات ضرورة تمليها ظروف الحياة وتعقيداتها، وتنوع المنازعات والخصومات وتشابكها، وتعدد وتجدد الأنظمة واللوائح المنظمة لحقوق الأشخاص وواجباتهم، وكل ذلك يتطلب لزاماً قدراً من التخصص الذي يضمن حداً أدنى من الإلمام والمعرفة والاستيعاب لموضوعات النزاعات المطروحة بين يدي القاضي للفصل فيها، وأما فكرة القاضي الموسوعي فقد تضاءلت في عصرنا هذا كثيراً للصعوبة البالغة في تطبيقها ومخاطرتها بدرجة ما بمبدأ العدالة. ومما لاشك فيه أن نظر الخصومات والنزاعات من خلال المحاكم المتخصصة وعبر قضاة متخصصين ضمانة فعلية ومهمة غاية الأهمية في تحقيق أكبر قدر من العدالة، وقد أجاد من قال: (الحكم على الشيء فرع عن تصوره).
4- من الملاحظ بشكل واضح أن اختصاصات المجلس الأعلى للقضاء قد توسعت في ظل نظام القضاء العام الجديد، حتى صار للمجلس دور تشريعي مساعد فيما يخص القضاء وذلك في حدود معينة، فقد أُنيط بالمجلس إعداد اللوائح المتعلقة بشؤون القضاة الوظيفية، ولائحة التفتيش القضائي، ووضع قواعد تُنظم اختصاصات وصلاحيات رؤساء المحاكم ومساعديهم، وقواعد أخرى في طريقة اختيار القضاة، وفي المقابل فقد عمل النظام على الحد من سلطة وزارة العدل على القضاء - في غير الشئون الإدارية والمالية -، ولاسيما ما يتعلق بالجانب الوظيفي للكادر القضائي وذلك كله لصالح المجلس الأعلى للقضاء، والذي أصبح هو الجهة المهيمنة فعلاً على شئون القضاء خصوصاً الشئون الوظيفية للقضاة من تعيين ونقل وترقية وتفتيش و تأديب ونحوه، وذلك إمعان في تطبيق مبدأ استقلال السلطة القضائية، وفصلها عن السلطة التنفيذية، مع الأخذ بعين الاعتبار بأن دور وزارة العدل كسلطة تنفيذية يقتصر على الجوانب الإدارية والمالية فقط حتى في النظام السابق، ولكن النظام الحالي عمل على تفعيل ذلك الدور أكثر في الواقع الفعلي.
ومن أبرز الخطوات المهمة في هذا الاتجاه ما نصت عليه آلية العمل التنفيذية لنظام القضاء العام في البند الأول في الفقرة الخامسة والتي نص على نقل إدارة التفتيش القضائي إلى المجلس الأعلى للقضاء بعدما كانت تابعة لوزارة العدل، كما أن وزير العدل كان سابقاً رئيساً للهيئة العامة لمجلس القضاء الأعلى، والموكل إليها من ضمن مهامها القيام بالشئون الوظيفية للقضاة كما يظهر ذلك من المادة (9) من نظام القضاء القديم 1395هـ، ومعنى ذلك أن السلطة التنفيذية كان لها حق التدخل في شئون القضاة الوظيفية، أما في ظل النظام الجديد فليس لوزير العدل ذلك، فلم ينص النظام على ترؤس وزير العدل لأي هيئة أو لجنة في المجلس الأعلى للقضاء.
ووجود جهة قضائية تهيمن على شئون القضاء، واقتصار دور السلطة التنفيذية (وزارة العدل) على التصديق على القرارات يعد في الحقيقة ضمانا مهما لاستقلال ونزاهة القضاء وتحقيق العدالة لكافة المتقاضين.
5- كما أن نظام القضاء الصادر 1428هـ قد عمل على الحد والتقليل من الهيئات شبه القضائية إلى حدٍ كبير، وهذه الهيئات هي لجان وهيئات تابعة للسلطة التنفيذية، ومناط بها القيام بأعمال قضائية معينة، وكثيرٌ منها غيرخاضع لرقابة ومراجعة السلطة القضائية (ديوان المظالم)، وقد أوصلها بعض القانونيين إلى (36) هيئة ولجنة، وقد جرى العرف القضائي أن مثل هذه الهيئات توضع في العادة للنظر في نوعيات معينة من القضايا، تحتاج أكثر من غيرها إلى متخصصين حتى ينظروها.
ووجود هذه الهيئات واللجان في العرف القضائي تعتبر وضعاً استثنائياً خلافاً للقاعدة العامة التي تقتضي الفصل بين السلطات الثلاثة في الدولة، وعدم تولي السلطة التنفيذية أي عملٍ قضائي، فليس من العدل أن يكون جهة من الجهات التنفيذية خصماً وحكماً في الوقت نفسه.
وقد وجدت وانتشرت هذه الهيئات إبان أنظمة القضاء السابقة لعدم وجود قضاء متخصص في النواحي التجارية والعمالية والمرورية وغيرها، ومما يجدر التنبيه عليه أن هذه الهيئات تحتوي ضرورةً ضمن لجانها المخولة بالنظر في نوعية من الخصومات والفصل فيها على قاض شرعي، ومع إقرار النظام الجديد للمحاكم المتخصصة والسماح بإنشاء محاكم أخرى متخصصة حسب الاحتياج فقد زال المبرر والحاجة لوجود مثل تلك الهيئات.
وقد نصت آلية العمل التنفيذية لنظام القضاء العام في البند التاسع على نقل اختصاصات اللجان شبه القضائية التي تنظر في قضايا جزائية أو منازعات تجارية أو مدنية إلى القضاء العام، واستثنى ثلاثة أنواع من اللجان وهي المتعلقة بالبنوك والسوق المالية والقضايا الجمركية، كما في الفقرة الثانية من الأحكام العامة في الآلية.
والمتوقع ولاسيما في حالة النجاح في تطبيق فكرة المحاكم المتخصصة أن يصدر لاحقاً ما يعدل هذه الجزئية، ويقضي بإحالة جميع الهيئات شبه القضائية إلى السلطة القضائية.
هذه قراءة سريعة لما يمكن أن نسميه بضمانات العدالة في ظل نظام القضاء العام الجديد، أردت بها أن أكشف عن جانب من الجوانب المشرقة في القضاء في المملكة العربية السعودية الذي يعد التطبيق المعاصر الوحيد للقضاء الشرعي القائم على تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية.
قسم الأنظمة بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة