هناك قضايا استراتيجية ومسلمات وطنية لا نقبل فيها النقاش كالأمن الوطني والعقدي على سبيل المثال.
ومن المشكلات الاستراتيجية لدى أي دولة أن تبنى توجهاتها على أساس يمكن أن يقبل الجدل، فضلاً عن أن يكون هذا التوجه خللاً في الأصل وهنا أتحدث عن مفهوم يُشاع من قِبل قيادات وزارية متعددة ويرتبط هذا المعنى تحديداً بسوق العمل وبشكل أخص في توجيه تخصصات التعليم العالي ومخرجاته لخدمة سوق العمل وأشعر بأنه خلل إستراتيجي سيجرنا إلى مشكلات تنموية لا حصر لها.
ولعلي هنا أعرض إلى عدة نقاط أرجو أن تأخذ حظها من التفكير العميق لدى من يعنيهم هذا الأمر وأهمها:
أولاً: اننا نخطئ خطأً استراتيجياً حينما نشعر أبناءنا وبناتنا أن الوظيفة مرتبطة بما توفره الحكومة أو من خلال ما تتكرم وزارة الخدمة المدنية بالإعلان عنه من وظائف شاغرة أو مطلوبة في القطاعات المختلفة!!.. أو لسنا بهذا التوجه نرسخ مفهوم الوظيفة المرتبطة بالحكومة ومن ثم نجعل طوابير خريجينا عاطلة تنتظر مكرمة الإعلان.
ثانياً: من الخطأ استراتيجياً أن نفهم أو أن نُفهم طلابنا وطالباتنا بل وشعبنا أن العمل مرتبط بالوظيفة!!.. أو ليس لدينا ما يزيد على العشرة ملايين عامل أجنبي يعملون في مختلف المجالات وفي مشرق البلاد ومغربها.. إن هذه الأعداد الهائلة من العمالة الأجنبية في تقديري في الأصل هي أعمال ومهارات شاغرة لكل شاب وشابة في مجتمعنا السعودي.
ثالثاً: ما بالنا وزراء وقيادات تعليمية نقول بأفواهنا وخططنا وأعمالنا بأن تاريخنا لا فائدة من دراسته وأن علوم مجتمعنا التي تواجه مشكلاتنا، بل إن علومنا الشرعية التي هي أساس قيام مجتمعنا لا حاجة إلينا بها.. ولا أقول ذلك ظناً بل تأكيداً وآخرها ما صرح به معالي مدير جامعة جازان بأن لا حاجة إلى علوم الشريعة لأنها لا يحتاج إليها سوق العمل، وذلك في جريدة عكاظ قبل أيام.. هل وصل بنا الحال إلى أن المواد العلمية التي تحمل تاريخنا وقيمنا وأساس وجودنا لا قيمة لها.. إن هذا خطأ استراتيجي عظيم.
رابعاً: ان ربط التعليم بالوظيفة فقط هو إعاقة لعقليات مجتمعنا وإبداعاته وتجديده.. ذلك أنه يجب أن نربط تعليمنا بمشروعات علمية وعملية بمعنى أن نربط التعليم بخلق المشروعات التنموية والأعمال الحرة في الوقت الذي تدعم فيه المشروعات الصغيرة والابتكارات العلمية.. وخذوا على سبيل المثال خريج قسم علوم الاجتماع والخدمة الاجتماعية بدل أن يكون مرشداً طلابياً وأن توقف أو تعلق هذه الأقسام بسبب شح الوظائف يمكن أن يفتح خريجوه مشروعات للإرشاد الأسري ومكاتب للاستشارات الأسرية ومراكز الترفيه للشباب.. وغيرها كثير.. المهم أن نوجه التعليم لخلق المشروعات لا أن نشعر طلابنا بأنهم حبيسو الإعلان عن وجود وظائف وإلا فسيكونون ضمن أعداد طوابير العاطلين وهذا خلل استراتيجي عظيم.
خامساً: إن هذا التوجه في قصر التعليم على الوظيفة سوف يؤدي مستقبلاً إلى تكدس خريجي هذه الأقسام أياً كانت ليكونوا من أعداد العاطلين ويصبح بعد فترة خريج التاريخ أو الشريعة أو الاجتماع عملة نادرة.. وذلك أن التطرف في توجه ما يخلق تطرفاً في النتائج المعاكسة.
وأخيراً.. أتمنى من كل مشتغل في حقل التعليم أن يحيل مفهوم العلم إلى ساحة العمل فلماذا تدرس العقيدة أو ليس لتصحيح مفهوم العبادة، ولماذا تدرس التاريخ أو ليس لأخذ العبرة والقدوة ولماذا تدرس الاجتماع أو ليس لمعالجة مشكلاتنا وتصحيح مسار تنميتنا.. وإلى هذا المفهوم انتهي (بأن علومنا يجب أن تكون كلها عملية).
عميد شؤون الطلاب بجامعة القصيم