مفهوم الحوار ليس غريبا على ثقافتنا الإسلامية، فلا ينكر أي مطلع على حقيقة هذا الدين بأنه أول من نادى بالحوار ليس بين المسلمين وبعضهم فحسب، بل بين المسلمين وأصحاب العقائد الأخرى، فقد قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}
والمعاني التي نستشفها من ذلك أن الإسلام دين قام على الحوار والتفاهم، وأن الحوار لا بد أن يخضع لأسس منطقية يقتنع بها كل ذي لب حكيم، بلا ريب أن أولها هو عبادة الخالق وتوحيده لأن هذه هي مهمة البشر جميعاً التي خلقوا من أجلها، وألا يقدس البشر بعضهم بعضا مهما وصلت مكانتهم التاريخية لأن هذا يجعلهم ينزلقون إلى هاوية تالية غير الله دون أن يشعروا.
كما أن هذا الدين العظيم قد جعل الحوار المطلوب من كل مسلم أن يكون قائماً على اللين والحجة والإقناع الهادئ المستنير، وذلك حينما وصف القرآن من جعله الله قدوة لنا محمد -صلى الله عليه وسلم- فقال عنه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}، فليس الحوار يقوم على السب والشتم والإرغام، كما يفعل بعض من ينادون بالتحديث، لأن هذا يأتي بنتيجة عكسية ويجعل الخصم يتمسك بموقفه.
بل وصل بعض مدربي الحوار ومقننوه في واقعنا المعاصر إلى تعريف الحوار بأنه (مجرد عرض للأفكار وليس وسيلة لإفحام الخصم أو حتى إقناعه)، فأول بوادره عدم استفزاز الطرف الآخر بتسفيه رأيه أو التقليل من شأنه، فما بالك إذا كان النقد لاذعاً، أو توجيه العبارات التي تقطع خط الرجعة مع الطرف الآخر، مثل عبارات: التخلف، الظلاميين، الجعجعة، إضافة لعبارات التهديد والوعيد والإيقاع بالمخالف.
لذا فنتائج الخلاف في الرأي لدى البعض أضحت تصوره بأنه يفسد للود ألف قضية وقضية، وصار الحوار أقرب للمصادمات منه للتفاهم، ويبدو أن يوجد جماهير خفية وظاهرة تصفق لكل واحد من الطرفين سواء كان رأيه صائباً أو خاطئاً، لأن هناك من الناس من يعشق روح المناورة والتحدي.
كما أنه يوجد من يستخدم أسلوب الصمت تجاه من يخالفه لأنه يرى أن أسلوب الحوار يتحول إلى جدال لا يجدي مع البعض، بل قد يساهم في نشر الرأي السلبي أكثر وأكثر عبر قيل وقال وطول المجادلة العقيمة التي ذمها الله تعالى بقوله: {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}، فليس كل صمت دلالة رضا، بل قد يكون دليل إحباط.
ومع ذلك، فتظل هناك مواقف تستدعي عرض الرأي مع من نخالفهم لأن القاعدة الإيمانية تخبرنا عبر الحديث الشريف بأن (الساكت عن الحق شيطان أخرس)، ولكن بأسلوب الحكمة والموعظة الحسنة التي أمرنا بها الخالق في كتابه العظيم.
وإذا كان هناك منبر حقيقي للحوار فهو المنبر الإعلامي المقروء والمسموع والمشاهد، شريطة ألا يكون حوارا من طرف واحد يصول فيه ويجول، لأن القبول والتأثير لم ولن يكونا من نصيبه.
الرياض
g.al.alshaikh12@gmail.com