تونس - خاص بـ(الجزيرة)
أكد د. العروسي الميزوري - مدير المعهد العالي لأصول الدين بتونس، أن الارتقاء بمستوى العلم الشرعي فتح المجال لحرية التعبير، والمزيد من الابتداع، وقال: إن القرآن الكريم ينسجم انسجاماً كاملاً، ويتناسق بشكل تام مع الممارسات الديمقراطية.
وطالب د. العروسي علماء الإسلام توحيد صفوفهم، ومعالجة قضاياهم بالحوار، والحسنى، لضمان رقي المجتمع وتطوره في كافة المجالات.. جاء ذلك في حوار مع د. العروسي الميزوري، وفيما يلي نصه:
* بداية نود أن تعطوننا لمحة عن المعهد العالي لأصول الدّين بتونس؟
- يرجع المعهد العالي لأصول الدّين بتونس بالنّظر إلى جامعة الزّيتونة الّتي تضمّ علاوة عنه، المعهد العالي للحضارة الإسلاميّة بتونس ومركز الدّراسات الإسلاميّة بالقيروان. وقد ظلّ المعهد العالي لأصول الدّين بتونس، منذ إحداثه سنة 1988م، يحمل إسم المعهد الأعلى لأصول الدّين، ثمّ منذ 2008، أصبح يسمّى المعهد العالي لأصول الدّين بتونس.
ويتضمّن المعهد العالي لأصول الدّين بتونس حاليّا ثلاث شعب على مستوى التّكوين وهي: شعبة (العلوم الشّرعيّة والتّفكير الإسلاميّ) وشعبة (التّراث الإسلاميّ) وشعبة (الملتيميديا المطبّقة على الفنون الإسلاميّة).
اعتمد المعهد العالي لأصول الدّين بتونس نظام (إمد) (الإجازة والماجستير والدّكتوراه) منذ بداية السّنة الجامعية 2006-2007. وقد انخرطت مختلف الشّعب في هذه المنظومة وفق التدرّج الزّمني التّالي:
شعبة (العلوم الشّرعيّة والتّفكير الإسلاميّ) منذ بداية السّنة الجامعيّة 2006-2007، وشعبة (التّراث الإسلاميّ) منذ بداية السّنة الجامعيّة 2007- 2008، وشعبة (الملتيميديا المطبّقة على الفنون الإسلاميّة) منذ بداية السّنة الجامعيّة 2008-2009م.
ويؤمّن المعهد العالي لأصول الدّين بتونس تكوينا في الدّراسات العليا من الوجهتين العلميّة البحثيّة والمهنيّة، ففي المجال العلميّ البحثيّ، يضمّ المعهد شعبة (أصول الدّين) وشعبة (الشّريعة) وشعبة (الحضارة الإسلاميّة). أمّا في المجال المهني، فهو يشمل شعبة (قسمة الفريضة) وشعبة (بعث المؤسّسات)، وقد تمّ أخيراً تقديم مقترح نظام الدّراسات العليا بالمعهد العالي لأصول الدّين وفق منظومة (إمد). ويتضمّن هذا المقترح ما يلي:
- على مستوى الماجستير العلمي البحثيّ، تمّ اقتراح ماجستير في (العلوم الدّينيّة وحوار الحضارات) وتشمل هذه الماجستير تخصّص (علوم القرآن والحديث والسّيرة) وتخصّص (العقيدة ومقارنة الأديان) وتخصّص (الشّريعة والقانون) وتخصّص (الحضارة الإسلاميّة وحوار الثّقافات).
- على مستوى الماجستير المهني، تمّ الإبقاء على الماجستير في (قسمة الفريضة) والماجستير في (بعث المؤسّسات).
ويسند المعهد العالي لأصول الدّين بتونس حاليّا شهائد الأستاذيّة والإجازة والماجستير في التخصّصات الآنفة الذّكر والدكتورا في العلوم الإسلاميّة.
وقد بلغ عدد طلبة المعهد العالي لأصول الدّين بتونس خلال السّنة الجامعيّة 2008- 2009 (1500) طالباً موزّعين على مختلف المستويات والتّخصّصات. كما بلغ عدد إطار التّدريس بالمعهد نفسه، 75 أستاذا من قارّين و متعاقدين و عرضيّين.
* وماذا عن علاقة المعهد العالي لأصول الدّين بتونس بنظرائه المعاهد الشّرعيّة في العالم الإسلامي بصفة عامّة؟ وفي المملكة العربيّة السّعوديّة على وجه الخصوص؟
- تتمثّل علاقة المعهد العالي لأصول الدّين بتونس بنظرائه المعاهد الشّرعيّة في العالم الإسلاميّ في التّعاون العلميّ والأكاديميّ وتبادل الزّيارات والخبرات والإسهام في تطوير المناهج وتنظيم ندوات ومؤتمرات وأيّام دراسيّة دوليّة وتبادل الإصدارات والمدوّنات.
أمّا علاقة المعهد العالي لأصول الدّين بالمعاهد الشّرعيّة بالمملكة العربيّة السّعوديّة، فتتمثّل في إسهام بعض أساتذة المعهد في التّدريس ببعض الجامعات السّعوديّة في إطار التّعاون الفنّي وفي انتساب بعض الطّلبة السّعوديّين إلى المعهد من أجل إعداد رسائل ماجستير ودكتوراة في العلوم الإسلاميّة فضلا عن تنظيم ندوات علميّة دوليّة مشتركة.
* تعالت الأصوات المنادية بتحديث الفكر الإسلاميّ من أجل مواجهة مستجدّات العصر ومتغيّراته في شتّى المجالات.. فكيف ترون أهمّية تحقيق ذلك؟
- إنّ مسؤوليّة تحديث الفكر الإسلاميّ ملقاة على عاتق المؤسّسات الجامعيّة والبحثيّة المنتشرة في العالم الإسلاميّ. وفي هذا الإطار بالذّات، ما انفكّ المعهد العالي لأصول الدّين بتونس يعمل على تطوير منهجيّة التّدريس الّتي بوّأها المكانة الّتي تستحقّها حيث سلك منهجيّة في التّدريس ترتكز على تجديد الفكر الإسلامي ومواءمة مفرداته ومناهجه مع متطلّبات العصر ومقتضيات المعاصرة في إطار التّوفيق بين العقل والنّقل والحكمة والشّريعة والأصالة والمعاصرة.
* نعاني في عالمنا الإسلاميّ من مشكلة المصطلحات الّتي تصدر من المجتمعات الغربيّة ونكرّرها نحن دون تحفّظ، مثل مصطلح الأصوليّة المسيحيّة وسياقه، في حين لدينا نحن مصطلح (أصول الدّين) الّذي يختلف تماما عن المصطلح السّابق، فكيف يمكن مواجهة هذه المشكلة؟
- يمكن مواجهة هذه المسألة بصورة معرفيّة حيث يتمّ إخضاع المصطلح لحقيقته العلميّة في سياقه التّاريخي وسياقه الدّلالي لأنّ الأصوليّة وثيقة الارتباط بالمجتمع الأوروبّي في ديانته المسيحيّة وتاريخه الكنسيّ، وهي ترمز إلى بعض التيّارات الفكريّة المتعصّبة والمتطرّفة على وجه التّحديد، وهذا على خلاف ما هو سائد في البيئة العربيّة الإسلاميّة حيث أنّ مصطلح أصول الدّين ومصطلح أصول الفقه يمثّلان بعدا معرفيّا مغايرا تماما لمصطلح الأصوليّة الغربيّة فكرا وتاريخا.
وتعني الأصول داخل المنظومة الشّرعيّة احترام الثّوابت واعتبار حقيقتها الدّينيّة حقيقة موضوعيّة ذات شأن في كلّ قراءة وتأويل. ولا يكتسب هذا المفهوم أيّة صبغة إيديولوجيّة، فهو محدّد علميّ ومنهجيّ يلغي التحكّم في الدّلالة الدّينيّة والسّيطرة عليها من جهة الأفراد والجماعات والاتّجاهات وذلك ضمانا لحرّيتي الفكر والاجتهاد من داخل ضوابط وقواعد منهجيّة موصولة بحدود معرفيّة معيّنة.
* بين الفكر الضالّ المنحرف المتشدّد وبين الفكر الانهزامي التّبعي المفرط للغرب والمنسلخ من الثّوابت والقيم، كيف يمكن للمؤسّسات العلميّة من خلال مسؤوليّاتها أن تعمل على إرساء المنهج الإسلاميّ الوسطيّ في خضمّ هاتين الموجتين؟
- على المؤسّسات الدّينيّة العمل على نشر ثقافة الاعتناء بالجانب العلميّ في مجال العلوم الشّرعيّة وإبراز عقلانيتها ومواكبتها للحضارات الإنسانيّة وذلك بتجديد الوعي الدّينيّ عبر ترسيخ قاعدة الوسطيّة حقيقة دينيّة تتحقّق معها صفات الواقعيّة والشّمولية والتّوازن والاعتدال و مسلكيّة منهجيّة يستبعد فيها ردّ الفعل والتّوتّر والتشنّج وغير ذلك ممّا يمثّل اضطرابا في الفكر والسّلوك.
* هناك من يزعم زيفا وزورا أنّ المسلمين نشروا دينهم بين النّاس اعتمادا على العنف وإجبار الغير على الدّخول في الإسلام... وهذا يتنافى جملة وتفصيلا مع حقائق الإسلام وتعاليمه وأحكامه... فكيف ترون الردّ المناسب على مثل هذه الدّعاوى؟
- هذه شبهة قديمة جديدة وجديدة قديمة تأتي على خلاف الحقائق العلميّة والتّاريخيّة لأنّ الإسلام امتدّت آثاره للخارج من خلال قنوات التّجارة والتّرجمة والمصاهرة بطرق الإقناع والحوار والتّعريف بالفكر. كما أنّ الإسلام هو دين الحرّيّة الدّينيّة يقول تعالى في هذا السّياق نفسه: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (256) سورة البقرة. وأكبر دليل على ذلك تطبيق الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم مبدأ المواطنة بالمدينة المنوّرة بين اليهود والمسيحيّين والمسلمين والصّابئة وزواجه عليه الصّلاة والسّلام من يهوديّة ومسيحيّة.
* خلط كبير ومتعمّد الآن لوصف العرب والمسلمين ودينهم وحضارتهم بالإرهاب والعنف والتخلّف، فما مسؤوليّة علماء الأمّة ومؤسّساتها الشّرعيّة للتصدّي لمثل هذه الأقاويل الكاذبة؟
- على علماء الأمّة الإسلاميّة ومؤسّساتها الشّرعيّة إبراز سماحة الإسلام واعتداله وذلك بتنظيم ندوات ومؤتمرات وأيّام دراسيّة دوليّة ومعالجة القضايا المطروحة بالحوار ونشر ثقافة التّسامح والاعتدال والوسطيّة عبر وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئيّة.
عليهم كذلك المعرفة باللّغات من أجل إبلاغ صوتهم للآخر. وفي المقابل، على الغرب مراجعة موقفهم من الإسلام (فوبيا).
* تطوير الخطاب الدّيني قضيّة شغلت الكثير في عصرنا الحالي... ما رؤيتكم تجاه هذه القضيّة وكيف يتمّ هذا؟
- ما فتئ المفكّرون المسلمون من علماء دين واجتماع وفلسفة وتاريخ... يبذلون قصارى جهدهم في سبيل تصحيح المعرفة النّقليّة وتوثيقها، هذه المعرفة الّتي ساهمت بصورة فعّالة في بناء العلوم الإسلاميّة وتكوينها سواء ما اتّصل منها بالدّين أو التّاريخ أو الأدب. لكن رغم ما تمّ قطعه من أشواط في هذا المجال، لا يزال الخطاب الدّيني في مختلف البلدان الإسلاميّة في حاجة إلى مزيد التّرشيد والإثراء.
ويمثّل الخطاب الدّيني عنصرا من عناصر الثّقافة الإسلاميّة الّتي يتأكّد الاعتناء بها والعمل على تطويرها حتّى تكون هذه الثّقافة متماشية مع روح العصر ومتفاعلة معه بصورة إيجابيّة. وقد أدرك المسلمون دور الدّين الفعّال في واقع الحياة المعيش فنادوا بضرورة توفير خطاب دينيّ يجمع بين التمسّك بالثّوابت ومسايرة مستجدّات العصر من حيث الشّكل والمضمون.
على المسلمين إذن تطوير خطابهم الدّيني في ذاته موضوعا ومنهجا وجعله يعتني بمشاكل الإنسان ويفي بحاجياته ويتجاوب مع طموحاته وآماله ويساهم في تحقيق التّنمية الشّاملة بشقّيها المادّي والرّوحي وتركيز أسس المجتمع المدنيّ وتحقيق أمنه. بهذه الصّورة، يصبح الخطاب الدّيني دعامة للاقتصاد وحماية للوطن وتأهيلا للإدارة والمؤسّسات ودفعا لعجلة التّنمية وسندا لها ومواكبا للتطوّرات التّقنية والفنّيّة والمهنيّة في إطار التمسّك بالثّوابت وحسن فهم المتغيّرات المعاصرة والتّعامل معها بما يحقّق الأهداف المرجوّة.
* إذا نظرنا إلى واقع العالم الإسلاميّ وما يجري فيه من أحداث واتّجاهات فكريّة نجد اضطرابا شديدا وتمزّقا يضعف قوى الأمّة ويحدّ من طاقاتها... في رأي فضيلتكم ما هو العلاج النّاجح لحال هذه الأمّة؟
- لمعالجة واقع العالم الإسلاميّ، على علماء الإسلام توحيد صفوفهم ومعالجة قضاياهم بالحوار والحسنى لأنّ في توحيد الكلمة، ضمان لرقيّ المجتمع وتطوّره في مختلف المجالات.
* أخطر ما يهدّد القرآن الكريم هو تصدّر من لا يدركون قوامته - على الوجه الأكمل- للحديث عنه، وانخراطهم في أمور الدّعوة بلا إدراك أو فهم لحقيقتها وتهميش القرآن في المناهج الدّراسيّة، وبالتّالي فإنّ النّتيجة المتوقّعة هي ضعف الأمّة وتدنّي هيبة المسلمين وهجرتهم لكتاب اللّه، فما رؤيتكم لذلك؟
- يقتضي الارتقاء بمستويي العلم والمعرفة فسح المجال للتّعبير بحريّة لأنّ الحريّة تحرّك كوامن الإبداع في الإنسان وتحدّ من التسلّط بما توجده في المجتمع من نقد بنّاء تساهم فيه النّخب الفكريّة والكفاءات الوطنيّة. غير أنّ الحرّيّة لا تعني التدخّل في غير الاختصاص. إنّ تناول القرآن بالدّراسة والخوض في مسائله يستوجب الإلمام بعلومه والتمكّن من مقاصده والقدرة على توضيح مضامينه.
* كثر اللّغط في السّنوات الأخيرة حول الخيار الديمقراطيّ وصوّر البعض الإسلام على أنّه مناف للممارسات الدّيمقراطيّة، لذا نرجو توضيح الصّورة حول هذا الأمر؟
- القرآن كتاب حيّ وباستنطاقه وقراءته قراءة تحاوريّة (أي أنّ الإنسان يتحاور مع القرآن) يحدث تمثّل مفاهيم مواكبة للتطوّر وداعمة لرقيّ المجتمع.
من الثّابت أنّ القرآن ينسجم انسجاما كاملا ويتناسق تناسقا شفّافا مع الممارسات الدّيمقراطية. ومن يقول عكس ذلك، فهو مخطئ، وأكبر دليل على ذلك قوله تعالى: (وأمرهم شورى بينهم).