أوضح فضيلة الدكتور أبو القاسم مهدي مدني بأن لشهر رجب مكانةً عند الله تعالى، فهو أحد الأشهر الحُرُم التي كرَّمها الله جلَّ ذكره في كتابه الكريم ونهى الناس عن الظلم فيها واستدرك قائلاً: إلاَّ أنَّ هذا لا يعني تخصيصه بعبادة معينة دون غيره من الشهور؛ لأنَّه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء من ذلك. وقد قرر العلماء أنَّ تخصيص العبادات بأوقات لم يخصصها بها الشرع لا يجوز لأنه لا فضل لوقت على وقت إلاَّ بما دلَّ عليه الدليل والعبادات توقيفية، لا يجوز فعل شيء منها إلاَّ إذا ورد به دليل من الكتاب أو من صحيح السُّنَّة.
وبين الدكتور مهدي أن بعض الناس أحدثوا الكثير من البدع في شهر رجب مستندين إلى أحاديث موضوعة وضعيفة، بل شديدة الضعف، لا تقوم بها حجة وعدد فضيلته بعض هذه البِدع في إطار الحديث التالي.
ليلة الإسراء والمعراج
أوضح الدكتور أبو القاسم أن من بدع رجب الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج وقال: إن الاحتفال بالإسراء والمعراج من الأمور البدعية التي نسبت إلى الشرع، حيث جعلوا ذلك سُّنَّةً تُقام في كل سنة، وذلك في ليلة سبع وعشرين من رجب، وتفننوا في ذلك بما يأتونه في هذه الليلة من المنكرات وأحْدثوا فيها من أنواع البدع ضروباً كثيرة، كالاجتماع في المساجد وإيقاد الشموع والمصابيح واجتماعهم للذكر والقراءة، وتلاوة قصة المعراج المنسوبة إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - زوراً وبهتاناً، والتي كلَّها أباطيل وأضاليل، ولم يصح منها إلاّ أحرف يسيرة، ومن الأدلة التي تثبت ذلك، ما يلي: من ناحية السند أنه ليس لها سند مطلقاً لا صحيحاً ولا ضعيفاً بل تبتدئ القصة بعزو الكلام رأساً إلى ابن عباس... وهذا من أوضح الأدلة على وضعها. ومن ناحية الأفكار والمعاني ففيها أفكار تخالف نصوص الكتاب والسنة، وتخالف العقل والنظر، فمن ذلك: زعم واضعها أن: السماء الأولى من دخان، والثانية من حديد، والثالثة من نحاس... والسابعة من درة بيضاء. ومن ذلك: قول واضعها - عليه لعنة الله - على لسان النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا تاب المذنب عند الغرغرة جدنا عليه وقبلنا توبته)، وهذا كذب صريح على النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال عكس ذلك تماماً: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) ومنها:
(وإذا أنا بملك له ألف رأس وفي كل رأس ألف وجه وفي كل وجه ألف فم وفي كل فم ألف لسان يسبِّح بألف ألف لغة)... وهذه خرافة كأن واضع هذا الحديث هو الذي وضع حديث فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم المتداول بين الناس والوارد في كتاب (دلائل الخيرات) عليه من الله ما يستحق، بقدر ما كذّب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولبَّس على أمته إلى يوم الدين.. ومنها: تسمية ملك الموت ب (عزرائيل): وهذا مما لا أصل له خلافاً لما هو المشهور عند الناس، فتسمية عزرائيل لم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم إنما هي من أخبار بني إسرائيل. بل لم يثبت من أسماء الملائكة إلاَّ خمسة وهي: جبريل وإسرافيل وميكائيل ومالك ورضوان، عليهم السلام... وغير ذلك كثير من الأخبار الكاذبة المناقضة للكتاب والسنة والعقل والعلم. ومن حيث الأسلوب يختلف أسلوب القصة التي ورد فيها حادثة الإسراء والمعراج عن أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم الذي أوتي جوامع الكلم، مما يفضح واضعها ويكذِبه، فمن ذلك: وجود تكلف وركاكة في التعبير وتطويل وتكرار وألفاظ قبيحة، ومن ذلك وجود الكلمات الغريبة والمعاني المجهولة وذكر أعداد مركبة واضحة الصنعة وكذلك قصة ابن السلطان، ذلك الرجل المُسْرِف الذي لا يصلِّي إلاّ في رجب، فلَّما مات ظهرت عليه علامات الصلاح، فسُئِلَ عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (إنَّه كان يجتهد ويدعو في رجب) والغريب أنهم يزعمون أنها- أي ليلة 27 رجب - ليلة الإسراء والمعراج... وهذا باطلٌ؛ لأنه لم يثبت أنه أُسْرِيَ بالنبي صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة بالذات، فقد اختلف العلماء في تحديد ذلك. قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: (وقد اختلف في وقت المعراج، فقيل: كان قبل المبعث، وهو شاذ، إلاَّ إن حُمِلَ على أنه وقع حينئذٍ في المنام). وذهب الأكثرون إلى أنَّه كان بعد المبعث، ثم اختلفوا في ذلك على أكثر من عشرة أقوال... وهذا يؤكد صِدْق قول ابن تيمية - رحمه الله -: (أنه لم يقم دليل معلوم لا على شهرها ولا على عُشْرِها ولا على عينها، بل النقول منقطعة مختلفة، ليس فيها ما يقطع به) وقال ابن رجب - رحمه الله -: (وقد رُويَ أنه كان في شهر رجب حوادث عظيمة، ولم يصح شيء من ذلك، فرويَ أن النبي صلى الله عليه وسلم وُلِدَ في أول ليلة منه، وأنه بُعِثَ في السابع والعشرين منه، وقِيلَ: في الخامس والعشرين، ولا يصح شيء من ذلك) وقال أبو شامة - رحمه الله -: (وذكر بعض القُصَّاص أنَّ الإسراء كان في رجب وذلك عند أهل التعديل والجرح عين الكذب).
حكم الاحتفال
وأردف فضيلته في حكم الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج بقوله على افتراض صحة تعيين ليلة الإسراء والمعراج بليلة (27 رجب)، فإنه لا يشُرع لأحدٍ تخصيصها بشيء من العبادات؛ لأنه لم يثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن خلفائه ولا عن صحابته - رضوان الله عليهم أجمعين - ولا عن التابعين أصحاب القرون الثلاثة المفضلة رحمنا ورحمهم الله. و قال ابن القيِّم - رحمه الله -: (قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ولا يُعْرف عن أحدٍ من المسلمين أن جعل لليلة الإسراء فضيلة على غيرها، ولا سيما على ليلة القدر، ولا كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يقصدون تخصيص ليلة الإسراء بأمرٍ من الأمور ولا يذكرونها، ولهذا لا يعرف أي ليلة كانت. وإن كان الإسراء من أعظم فضائله صلى الله عليه وسلم، ومع هذا فلم يشرع تخصيص ذلك الزمان، ولا ذلك المكان، بعبادة شرعية، بل غار حِراء الذي ابتدئ فيه بنزول الوحي، وكان يتحَّراه قبل النبوة، لم يقصده هو ولا أحد من الصحابة بعد النبوة مدة مقامه بمكة، ولا خُصَّ اليوم الذي أُنْزِلَ فيه الوحي بعبادة ولا غيرها، ولا خُصَّ المكان الذي ابتدئ فيه الوحي ولا الزمان بشيء، ومن خصَّ الأمكنة والأزمنة من عنده بعبادات لأجل هذا وأمثاله، كان من جنس أهل الكتاب الذين جعلوا زمان أحوال المسيح مواسم وعبادات، كيوم الميلاد، ويوم التعميد، وغير ذلك من أحواله. وقد رأى عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه - جماعة يتبادرون مكاناً يصلُّون فيه، فقال: ما هذا؟ قالوا: مكان صلَّى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد؟!، إنما هلك من كان قبلكم بهذا، فمن أدركته فيه الصلاة فليصلِ وإلاَّ فليمضِ - رواه ابن أبي شيبة:2-376 -) وقال كذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (وأما اتخاذ موسم غير المواسم الشرعية كبعض ليالي شهر ربيع الأول التي يُقال: إنها ليلة المولد، أو بعض ليالي رجب، أو ثامن عشر ذي الحجة، أو أول جمعة من رجب، أو ثامن شوال الذي يُسَّميه الجُّهال عيد الأبرار، فإنها من البدع التي لم يستحبها السلف ولم يفعلوها، والله سبحانه وتعالى أعلم) وقال ابن الحاج - رحمه الله -: (ومن البدع التي أحدثوها فيه أعني في شهر رجب ليلة السابع والعشرين منه التي هي ليلة المعراج...).. ثم ذكر - رحمه الله -، كثيراً من البدع التي أحدثوها في تلك الليلة من الاجتماع في المساجد، والاختلاط بين النساء والرجال، وزيادة وقود القناديل فيه، والخلط بين قراءة القرآن وقراءة الأشعار بألحان مختلفة، وذكر الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج ضمن المواسم التي نسبوها إلى الشرع وليست منه وقال علي القاري - رحمه الله -، مستنكراً الاجتماع وزيادة الوقيد والطعام في تلك الليلة: (لا شك أنها بدعة سيئة وفعلة منكرة لما فيها من إسراف الأموال والتشبه بعبدة النار في إظهار الأحوال).
العمرة في رجب
وعن العمرة في رجب بين فضيلته حرص بعض الناس على الاعتمار في رجب؛ معتقداً أن للعمرة فيه مزيد مزية وفضل، وقال وهذا لا أصل له، فقد روى البخاري - رحمه الله - عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمرات إحداهن في رجب، قالت - أي عائشة -: يرحم الله أبا عبد الرحمن، ما اعتمر عمرةً إلاَّ وهو شاهده، وما اعتمر في رجب قط) وقال ابن العطَّار - رحمه الله -: (ومما بلغني عن أهل مكة - زادها الله تشريفاً - اعتيادهم كثرة الاعتمار في رجب، وهذا مما لا أعلم له أصلاً) ونقل ابن سيرين - رحمه الله - عن السلف أنهم كانوا يعتمرون في رجب وقال أبو شامة - رحمه الله -: (ولا ينبغي تخصيص العبادات بأوقات لم يخصصها بها الشرع، بل يكون جميع أفعال البر مرسلة في جميع الأزمان ليس لبعضها على بعض فضل، إلاَّ ما فضَّله الشرع وخصَّه بنوع من العبادة، فإن كان ذلك، اختص بتلك الفضيلة تلك العبادة دون غيرها، كصوم يوم عرفة وعاشوراء، والصلاة في جوف الليل، والعمرة في رمضان، ومن الأزمان ما جعله الشرع مفضلاً فيه جميع أعمال البر، كعشر ذي الحجة، وليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، أي العمل فيها أفضل من العمل في ألف شهر، ليس فيها ليلة القدر، فمثل ذلك يكون أي عمل من أعمال البر حصل فيها، كان له الفضل على نظيره في زمن آخر... فالحاصل: أن المكلف ليس له منصب التخصيص، بل ذلك إلى الشارع والله أعلم وقال محمد بن إبراهيم آل الشيخ - رحمه الله -: (والذي يترجح عندي - والله أعلم - أن تخصيص شهر رجب بالعمرة ليس له أصل؛ لأنه ليس هناك دليل شرعي على تخصيصه بالعمرة فيه، مع ثبوت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في رجب قط. ولو كان لتخصيصه بالعمرة فضل لدلَّ أمته عليه - وهو الحريص عليهم - كما دلَّهم على فضل العمرة في رمضان ونحو ذلك. وأمَّا ما ورد أنَّ عمر بن الخطاب استحب العمرة في رجب، فلم أقف على سنده. وأمَّا ما نقله ابن سيرين عن السلف أنهم كانوا يفعلونه، فليس في ذلك دليل على تخصيصه بالعمرة؛ لأنهم ليس قصْدهم - والله أعلم - تخصيص شهر رجب بالعمرة، وإنما القصد - والله أعلم - هو الإتيان بالحج في سفرة والعمرة في سفرة أخرى، رغبةً في إتمام الحج والعمرة المأمور به. كما وضَّح ابن رجب - رحمه الله - في معرض كلامه عمَّا نقله ابن سيرين عن السلف).