أهم وأعظم عضو في جسم الإنسان هو رأسه، هذا الصندوق العظمي الشبيه بالكرة والمسمى بالجمجمة المكونة من عظام قوية ملتحمة مع بعضها البعض التحاماً وثيقاً. وهذه الجمجمة تقوم بحماية ما بداخلها من مخ (دماغ) ومراكز حواس. ومشكلة الإنسان بوجه عام والعلماء والأطباء بوجه خاص أنهم لا يعرفون ماذا يحدث في المخ من تفاعلات كيميائية
|
وإفرازات هرمونية متنوعة لها الدور الأساسي في كل ما يقوم به الإنسان من تصرفات وأفكار، وما قد يصيب جسمه من علل متنوعة، وما الأمراض النفسية والأمراض العصبية إلا نتيجة لخلل ما في هذا المخ (الدماغ) المكون من ملايين الخلايا، والمسيطر على جميع ما يحدث في الجسم. وهذا الجهاز (المخ) العصبي في غاية التعقيد والتركيب بما يحتويه من عقل خلاق مبدع، مع أن العلم بمختلف ضروبه لا يعرف ماهية العقل ولا مكانه ومستقره في كتلة هذه الخلايا العجيبة(؟) وما يهمنا هنا هو محاولة معرفة ما كان بين شاعر العرب الأكبر (المتنبي) والأطباء من تنافر، فهو قد شكك في قدرة الأطباء على معرفة ماهية أمراضه وعلله، وحاول أن يبين لهم ماهية أوجاعه وآلامه وماهية أسبابها وكيفية الشفاء منها، قال:
|
ألحَّ عليَّ السّقمُ حتى ألِفتُهُ |
وملَّ طبيبي جانبي والعوائِدُ |
لقد مل طبيب المتنبي من مرضه الدائم المتواصل حتى الناس ملوا من زيارته من استمرار سقمه، أي أن طبيبه عجز أن يجد له الدواء الشافي. وقال:
|
أقمتُ بأرضِ مِصرَ فلا وَرَائي |
تخُبُّ بي المَطيُّ ولا أمامِي |
وملّني الفراشُ وكان جنْبي |
يملُّ لقاءَهُ في كل عام |
قليل عائدي، سَقِمٌ فؤادي |
كثيرٌ حاسدي، صعبٌ مرامي |
عليلُ الجسمِ ممتنعُ القيامِ |
شديدُ السكر من غيرِ المدامِ |
يقول: أقمت بمصر دون فائدة؛ فلا هناك مطي تخب (تعدو) بي هنا وهناك، حتى فراشي ملني من طول مرضي، وكان جنبي يمل لقاء فراشي ومضجعي في العام مرة واحدة، وأنا في مرضي، قليل عائدي، سقم فؤادي، كثيرة أحزاني، وكثيرة حسادي وصعبة مرامي وأهدافي، وأنا عليل الجسم عاجز عن القيام وكأني في حالة سكر بدون خمر. وهنا كأنه يقول أنا أعرف أسباب مرضي هذا، أريد أن أنطلق لأحقق أهدافي ومرامي، لأنه كما قال:
|
فإن أمرضْ فما مَرضَ اصطباري |
وإن أُحْمَمْ فما حُمَّ اعتزامي |
يقول: إذا كان جسمي فيه مرض فأنا في عافية وصحة في صبري وعزمي، وقال قبل هذا البيت مخاطباً طبيبه ومفنداً لقوله ولعلاجه:
|
يقولُ لي الطبيبُ أكلْتَ شيئاً |
وداؤُكَ في شَرَابكَ والطَّعامِ |
وما في طبِّه أني جوادٌ |
أضرَّ بجسمِهِ طولُ الجَمامِ |
تعوّدَ أن يغبّرَ في السَّرايا |
ويدخلُ من قتامٍ في قتامِ |
فأُمسِكَ لا يطال له فيرعَى |
ولا هوَ في العليقِ ولا اللّجام |
يقول: يعتقد الطبيب أن علتي من أكلي وشربي، ولكنه مخطئ لأن الذي سبب مرضي طول الجمام مثلي مثل الفرس الجواد يضر بجسمه طول جمامه وعدم ركوبه والإغارة عليه، لأنه عود أن يغبر في سرايا الجيش ويدخل من قتام (غبار) معركة إلى غبار معركة أخرى، فأمسك هذا الجواد لا يرخى له الطول فيرعى فيه، ولا هو في السفر فيعتلف من المخلاة، وليس هو في اللجام، أي أن حاله -حال المتنبي- وهو قعيد الفراش كحال هذا الجواد. يقول الدسوقي (2006م): إنه يعترف - أي المتنبي- وكأنه يهمس لنفسه أن تشخيص الطبيب لدائه لا يمكن أن يفسر - على وجه اليقين - مرضه؛ لأن الطبيب يعتمد على الظواهر المادية في الجسم الإنساني، ولا يمكن أن يتجاوزها إلى أشياء خارج هذا الجسم. وتحس في كلام أبي الطيب نبرة شبه ساخرة من تشخيص الطبيب، فهو يحدد مرضه في أنه (أكل شيئاً وأصل دائه في الشراب والطعام). ويشخص لنا المتنبي داءه، وهو يواصل سخريته من الطبيب، بقوله (وليس في طبه شيء عن علتي التي تتلخص في أنني جواد أضر بجسمه طول الاستجمام والراحة، بعد أن كان يخوض المعارك ويقتحم الأهوال ويصافح الخطوب، وهو جواد مقيد مشدود. بالحبال). ويرى أن أثر هذه الحالة النفسية هو السبب الأساسي لمرضه العضوي، ولكل أمراضه الأخرى. ويضيف الدسوقي ويقول: وتأمل كيف يصل الشاعر العبقري إلى أدق النظريات العلمية، فنحن نعرف الآن من خلال بحوث الطب النفسي، أن هناك قسماً من أقسام هذا العلم يبحث في الأمراض العضوية التي تنجم عن أسباب نفسية. لا أريد أن أقول - يقول الدسوقي - إن المتنبي كان على علم بنظريات الطب النفسي، ولكنه توصل - بفطرته الفنية وشاعريته - إلى أدق حقائق هذا العلم. وهذا سر من أسرار عبقريته الشخصية وجاذبيتها. ونضيف - الكاتب - إلى قول الدسوقي قول المتنبي:
|
والهمُّ يخْترِمُ الجسيم نحافَةً |
ويُشيبُ ناصيَةَ الصَّبيّ ويُهْرمُ |
يقول: الهمّ يخترم (يهلك) عظيم الجسم، ويشيب (يهرم) الصبي قبل أوانه.
|
مراجع: د. عبدالعزيز الدسوقي (2006م) (أبو الطيب المتنبي شاعر العروبة وحكيم الدهر) المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت |
|