لقد خلق المولى - عز وجل - الأجرام السماوية وبث فيها الحركة في شتى أشكالها، وهنا سنستعرض عدداً منها مما له دور في أوضاع أهلة بداية الشهر على الأفق الغربي. فالأرض تدور حول محورها من الغرب إلى الشرق؛ مما يجعل للأجرام السماوية حركة ظاهرية تتمثل في الشروق والغروب، وتعتبر الحركة من الغرب إلى الشرق الحركة الطبيعية للشمس والأرض والقمر حول نفسها وحول بعضها البعض.
بحكم تابعية القمر للأرض فهو يدور حولها في حركة ظاهرية تتضح في تأخر غروبه اليومي بحوالي ساعة، وهذا التأخر ناتج عن حركته الذاتية حول الأرض باتجاه الشرق، التي تُسمى الحركة التقهقرية. ونتيجة هذه الحركة فإن القمر يظهر بأطواره المختلفة، من هلال نحيل أول الشهر القمري إلى تربيع وتحدب واكتمال بهيئة البدر، ثم يعود بأطواره متراجعاً إلى أن يظهر فجراً كالعرجون القديم هلالاً لآخر الشهر، ثم يكون في مرحلة المحاق وتُسمى الاستسرار، التي يختفي فيها عن الأنظار لمحاذاته للشمس.
وباستمرار حركة القمر التقهقرية باتجاه الشرق فإنه يصل إلى موقع يكون فيه مع الشمس في مستوى واحد وهو ما يُطلق عليه الاقتران، وبعد هذا يبدأ الانفصال بينهما ليفارق الشمس إلى ناحية الشرق، ويظل في مرحلة استسرار إلى أن يصل الانفصال مرحلة تُمكن أشعة الشمس من الانعكاس عن سطحه باتجاه الأرض، لتظهر لنا سمات الهلال المطلوب ترائيه على الأفق الغربي بعد غروب الشمس، ليكون بداية لشهر قمري جديد. وهكذا فإن لحظة الاقتران تتوسط فترة الاستسرار التي يحاذي فيها القمر الشمس ويقع في نطاق وهجها الشديد فلا يُشاهد لا فجرا ولا مغربا، وقد يكون ذلك لليلة أو ليلتين. وبتعبير آخر فإن الاقتران (المركزي) يمثل مرحلة تكون فيها مراكز كل من الأرض والشمس والقمر في مستوى واحد. ومن الحركات الظاهرية الملموسة تغير مواقع شروق وغروب الشمس على الأفق حول نقطتي الشرق والغرب الجغرافيتين وتستغرق الدورة الكاملة لتغير مواقع شروق وغروب الشمس سنة كاملة. كما أن تغير مواقع الشروق والغروب تطول القمر كذلك لكن الدورة الكاملة لهذا التغير حوالي شهر.
وهكذا فإن جميع الأجرام السماوية تتحرك ظاهريا على صفحة السماء خلال اليوم في مسارات دائرية يقسمها الأفق إلى جزئين أحدهما فوقه والآخر تحته. وتكون هذه المسارات عمودية تماما على الأفق في الأماكن الواقعة على خط الاستواء، أما عندنا في الجزيرة العربية فإن الشروق والغروب للشمس والقمر ليس عموديا على الأفق، بل يكون بوضع مائل، أي أن المسارات تكون مائلة قليلا نحو الجنوب، وهذا الميلان يكافئ خط عرض المكان، وكلما اتجهنا شمالاً كلما ازداد ميل المسارات نحو الجنوب وذلك لازدياد قيمة خط العرض. وكنتيجة لهذا الميلان فإن طول جزء المسار الذي فوق الأفق لا يتساوى مع ما يكمله تحت الأفق، إلا إذا كان المسار يمر بنقطتي الشرق والغرب الجغرافيتين. لذا فعند مقارنة أي مسارين نجد أن الجزء الذي فوق الأفق للشمالي منهما يكون اكبر من الجزء الذي فوق الأفق للمسار الجنوبي (انظر الشكل 1).
وبعد أن تم التعرف على كيفية اقتران القمر بالشمس وعلى تغير ميلان مساريهما على الأفق اعتمادا على خط العرض، سنتطرق إلى اختلاف حالات الهلال على الأفق الغربي لليلة التاسع والعشرين من الشهر القمري بالنسبة إلى خطوط عرض مختلفة. وإذا بدأنا من مكان على خط الاستواء حيث تكون المسارات عموديةً على الأفق. وبما أن الشروق والغروب ناتج عن دوران الأرض حول نفسها، فمن البديهي، انه إذا كان شروق الشمس والقمر معاً فإن غروبهما يجب أن يكون معا كذلك، وإذا كان شروق أحدهما قبل الآخر فان غروبه يكون أولاً، لكن إذا أدخلنا في الحسبان الحركة التقهقرية للقمر نحو الشرق، فستكون لدينا حالات ثلاث:
الأولى: إذا كان الاقتران قبل الشروق فإن الشمس ستشرق قبل القمر وستغرب قبله كذلك.
الثانية: إذا كان الاقتران لحظة شروق كل من الشمس والقمر، فإن الشمس ستسبق القمر في الغروب نتيجة حركته التقهقرية نحو الشرق.
الثالثة: إذا كان الاقتران بعد شروق الشمس، فإن تفاوت غروبهما يعتمد على الفترة الزمنية ما بين الشروق والاقتران.
وتنطبق هذه الحالات الثلاثة تماما على الأماكن الواقعة على خط الاستواء، أما عند خطوط عرض أخرى فإن الأمر سيختلف بسبب ميلان مسارات الشمس والقمر، مما يحتم تحديد خط العرض وذلك لمعرفة مقدار الميلان، وكذلك يتحتم معرفة مواقع المسارين أيهما شمالي أو جنوبي بالنسبة للآخر، ومعرفة وقت حدوث الاقتران. بهذا تصبح هناك عدة أوضاع كأن يكون مسار القمر شمالياً والشمس جنوبياً أو العكس فلكل حالة نموذج خاص بها.
هلال شهر رمضان المبارك لعام 1430هـ
بالنسبة إلى هلال دخول شهر رمضان 1430هـ - إن شاء الله تعالى - فإن موقع شروق وغروب القمر ستكون جنوبيةً بالنسبة إلى موقع الشمس. وسنضرب أمثلة لحالات غروب الشمس والقمر لثلاثة أمكنة على خطوط عرض مختلفة يجمعها خط طول واحد وهو التابع لمكة المكرمة وهذه الأماكن هي: أولا مكة المكرمة، ومكان على خط الاستواء، وأخيرا مكان جنوب خط الاستواء، وذلك لتوضيح كيفية التفاوت في غروب كل من الشمس والقمر في هذه الأماكن في ليلة واحدة.
ففي يوم الخميس 29 شعبان سيشرق القمر - بإذن الله - قبل الشمس في مكة المكرمة بحوالي 13 دقيقة (قبل الاقتران)، ويكون ارتفاعه عن الأفق الشرقي لحظة شروق الشمس حوالي 2.5 درجة، ونتيجة لحركته التقهقرية فإن اقترانه (المركزي) بالشمس سيكون بعد الظهر. ومع استمرار تقهقره فانه يتخلف عن الشمس عند غروبها، لكن بسبب ميل المسارات، وبسبب أن مسار القمر جنوبي بالنسبة إلى الشمس، فإن القمر سيغرب قبل الشمس بحوالي دقيقتين.
وفي نفس الليلة سيزيد سبق غروب القمر عن غروب الشمس كلما اتجهنا شمالاً (على نفس خط طول مكة المكرمة)، وذلك لازدياد ميل المسارات على الأفق انظر الشكل 2. أما في الأماكن الواقعة على خط الاستواء فإن القمر سيتأخر في غروبه عن الشمس بحوالي خمس دقائق.
وإذا انتقلنا إلى النصف الجنوبي من الكرة الأرضية فإن الأوضاع تنعكس تماماً، فعلى خط العرض 30 جنوبا لنفس يوم الخميس الذي نتحدث عنه نجد أن القمر يسبق الشمس بالشروق بحوالي 14 دقيقة، ويتأخر في غروبه بعد الشمس بحوالي 12 دقيقة، ويكون ارتفاعه عن الأفق عند غروب الشمس حوالي ثلاث درجات، ولمعرفة مدى التفاوت في غروب كل من الشمس والقمر باختلاف خطوط العرض مع ثبات خط الطول التابع لمكة المكرمة (انظر الشكل 2).
مدى إمكانية الرؤية
وهكذا فإن ارتفاعات الهلال عن الأفق الغربي تتفاوت في ليلة واحد في أماكن مختلفة (على خط طول واحد) اعتماداً على خطوط العرض، مما يجعل رؤيته تتفاوت من مكان إلى أخرى. وفي هذا الخصوص نجد أن الشيخ ابن تيمية وضَّح تفاوت إمكانية الرؤية بتفاوت ارتفاع الهلال حيث قال في فتاويه: (... بل إذا كان بُعده مثلا عشرين درجة فهذا يُرى ما لم يحل حائل، وإذا كان على درجة واحدة فهذا لا يُرى، وأما ما حول العشرة فالأمر فيه يختلف باختلاف أسباب الرؤية من وجوه...).
وهنا نلاحظ أن الإلمام بهذه المعارف كان موجودا قبل عدة قرون ويتمثل ذلك في معرفة أنه إذا كان غروب الهلال قبل غروب الشمس فإنه لا يمكن رؤيته. فما بالنا اليوم نقبل بشهادة رؤية هلال غرب قمره قبل الشمس، الأمر الذي تتكرر مأساته بوجود من يتقدم بشهادات وهمية عن رؤية أهلة غربت يقيناً قبل الشمس. هكذا فإنه إذا دلت المقدمات القطعية للحساب على عدم إمكانية رؤية الهلال، وذلك لغروب القمر قبل الشمس، فلا يجب قبول أي شهادة للرؤية مهما كانت عدالةً أو عدداً، بل لا بد أن تُحمل هذه الرؤية على الوهم أو الكذب لاقترانها بما يكذبها (لأن المشهود برؤيته غير موجود فوق الأفق). على هذا يجب عدم الإعلان للعامة بطلب تحري الرؤية في الليالي التي يغيب فيها القمر قبل الشمس. كما أن ابن تيمية تطرق إلى الارتفاعات التي ما بين الدرجة الواحدة والعشرين درجة، وأشار إلى أنه لا يمكن الاعتماد على الحسابات في تقدير إمكانية رؤية الهلال من عدمها ضمن هذه الارتفاعات، وذلك لعدد من الأسباب منها: حدة البصر، عدد المترائين، اختلاف أماكن الترائي، اختلاف أوقات الترائي، صفاء الجو وكدره.
وهنا لنا وقفة أخرى، وهو لا شك أن التطور العلمي خلال القرون الماضية انتقل بالبشرية تقنياً إلى مرحلة مكنتها من التغلب على عددٍ كبير من الأسباب التي طرحها الشيخ وغيرها (مثل: تقدير حجم الجزء المضيء من القمر (سُمكه) - شدة لمعانه - بُعد القمر عن الأرض - لمعان السماء بالقرب من الأفق الغربي لحظة غروب الشمس - تأثير ظل جبال القمر - تأثير ظاهرة انكسار الضوء في الغلاف الجوي - قدرة العين البشرية في كشف التباين) التي كانت من الموانع المؤدية إلى عدم الاعتماد في تلك الحقب على حسابات إمكانية الرؤية. والآن وبعد أن سخر المولى - عز وجل - هذا التنامي السريع في تقنية الحاسبات الذي أدى إلى التوصل لعمل برامج دقيقة لحساب حركات الشمس والقمر التي منها ظاهرة الخسوف والكسوف وأنواعها ومدتها والأماكن التي ستَشاهدها، وما كان ذلك ليتم لولا دقة حساب مواقع القمر وحركته على مداره حول الأرض، مما جعل حسابات الشروق والغروب من الأمور اليقينية وليست الظنية.
الرؤية الشرعية وحسابات إمكانية الرؤية
وأخيراً يجب أن نفرق ما بين حسابات الغروب والشروق اليقينية وحسابات إمكانية الرؤية التي تعتمد على الاستقراءات والظروف الجوية والرصدية. فحسابات إمكانية الرؤية تتطور وتتحسن مع الزمن وذلك بتزايد عدد الراصدين في مناطق مختلفة حول العالم ممن لهم خبرة وحدة نظر، لذا يجب أن نستفيد مما سخره المولى - عز وجل - من تقنيات حديثة لكي نتوصل إلى معيار لتحديد مدى إمكانية رؤية الهلال إذا تخلف القمر فوق الأفق بعد غروب الشمس.
كما أن معطيات هذا المعيار بالنسبة للرؤية ستنحصر في ثلاث نقاط:
1 - عدم رؤية الهلال، وذلك لغروب القمر غروبا قطعيا قبل الشمس.
2 - عدم رؤية الهلال على الرغم من وجوده فوق الأفق بعد غروب الشمس وذلك لعدم توافر الشروط المطلوبة للمعيار.
3 - إمكانية رؤية الهلال وذلك لتوافر الشروط المطلوبة. وبما أن مناسباتنا الدينية تتطلب الرؤية الشرعية الصحيحة التي لا تنفك عما يُكذبها وجب أن يكون استخدام المعيار على شكل مقنن، فبالنسبة إلى النقطة الأولى فلا نقاش في قطعيتها لاعتمادها على الحسابات القطعية، أما النقطة الثانية فلو تمت رؤية الهلال رؤية صحيحة لا يخالطها اشتباه فيؤخذ بها، وهذا مما يساعد على تطوير المعيار، وأخيرا النقطة الثالثة عندما تشير الحسابات إلى إمكانية رؤية الهلال ثم لم يشاهده أحد بشرط الاعتناء بتحريه فلا يؤخذ بهذه الحسابات في دخول الشهر وفي هذا أيضاً تطوير للمعيار.
وهنا تبرز أهمية المعيار وذلك في ما نصبو إليه من توافق ما بين الرؤية الصحيحة وحساب بداية الأشهر؛ ما يمكننا كمسلمين على إصدار تقويم قمري يعتمد على هجرة المصطفى - عليه أفضل الصلاة والسلام - من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة فنربط تاريخ هذا العصر بذاك الأصل، كما أن هذا التقويم من سُنن الخلفاء الراشدين التي أمرنا من لا ينطق عن الهوى بالتمسك بها والعض عليها بالنواجذ صلى الله عليه وعلى آله وصحبة الطيبين الأخيار وسلم تسليما كثيرا.
رئيس قسم علوم الفلك والفضاء - جامعة الملك عبد العزيز
الكرة سماوية حيث تمثل غروب شمس يوم الخميس 29 شعبان 1430هـ. (أ) لمكان على خط الاستواء حيث يكون مسارا الشمس والقمر عموديين على الأفق، والقمر قد تخلف بعد غروب الشمس. (ب) لمكة المكرمة حيث يغرب القمر قبل الشمس وذلك لميل مساري الشمس والقمر على الأفق.
تفاوت غروب الشمس والقمر يوم الخميس 29 شعبان 1430هـ على خطوط عرض مختلفة مع ثبات خط طول مكة المكرمة. عند خط عرض 20 شمالاً يغرب كل من القمر والشمس معا، بينما الأماكن شمال خط العرض20 فإن القمر يغرب قبل الشمس، والأماكن الواقعة جنوبه يغرب القمر بعد الشمس. في مكة المكرمة يغرب القمر قبل الشمس بحوالي دقيقتين.